وداعا الأسطورة: تألق أكثر مما تكلم، أعطى أكثر مما أخذ، ومات صامتا دون أن يزعج أحدا 

الظلمي لم يعد بيننا. المعلم رحل عنا. والمايسترو سنفتقده إلى الأبد… إنها الحقيقة المؤلمة والصادمة التي هزت مساء الخميس كل الأوساط سواء الرياضية أو غير الرياضية.
فعبد المجيد كان ملكا جماعيا لأنه بكل البساطة الأيقونة التي كثيرا ما أدخلت الفرحة لقلوب الملايين بأدائه الراقي وتواضعه غير العادي وصمته الرهيب المثير للاستغراب، لأنه ببساطة كان فيلسوفا والفلاسفة غير عاديين في طبائعهم.
لعب للرجاء أكثر من عشرين سنة، شكل ثقلا خاصة وهو يرتدي القميص الوطني منذ سنة 1971 إلى بداية التسعينات، جايل كبار  اللاعبين وأبرز المدربين وأكفأ المسيرين ألهم الملايين من الشباب وكان بحق نموذجا للرياضي المنضبط داخل الملعب والمحترم لقرارات المدربين والمسؤولية، لم يسجل عليه أي سلوك مربك أو قرار غير مسؤول أو اعتراض على قرارات الحكام والبطاقة الحمراء الوحيدة التي نالها كانت بسبب ارتكابه خطأ تكتيكيا متعارفا عليه بعد إسقاطه المتعمد للاعب السينغالي في لقاء دولي مع الفريق الوطني بملعب  الأب جيكو بالدار البيضاء. 
الظلمي المبدع حير الجميع بصمته غير العادي، وابتعد ما أمكن عن الأضواء. كان دائما أول لاعب يغادر رقعة الملعب نحو مستودع الملابس مباشرة بعد إعلان الحكم نهاية المباراة. يختار دائما لمغادرة الملعب الأبواب التي لا تقود إلى تواجد رجال الإعلام وقنوات التلفزة وعدسات المصورين.
صمت الظلمي وهروبه من الأضواء وامتناعه عن الكلام ترك للجميع حرية التعليق عليه. 
هناك من قال بأنه متواضع، وهناك من فسر الأمر بالخجل.. هناك من قال بأنه ابن درب السلطان ومتكبر.. لكنه هو قال بأنه مجرد إنسان يفضل الإبداع على الكلام.. وحتى عندما تكلم يوم تكريمه بأحد فنادق مدينة الدار البيضاء قال بالحرف “آشنو غادي نقول ليكم؟ نقول بلي كنعرف نلعب الكورة” …
كان دائم الابتسامة يختار الاختباء وسط الأصدقاء، حرم على جالسيه التحدث عن كرة القدم في حضرته، وكثيرا ما غادر مجلسا مباشرة بعد التمادي في التكلم عن الكرة أو المبالغة في طرح الاسئلة المتعلقة بأمر كرة القدم.
نال احترام الجميع سواء كان وداديا أو ماصاويا أو وجديا أم رباطيا. أما الرجاويون فقد كان بالنسبة لهم المفخرة التي تغنوا بها لسنوات حتى وهو يرتدي قميص جمعية الحليب بحثا عن دفء مالي تحسبا لتقلبات الزمن. إلا أنه سرعان ما عاد للحضن الدافئ للأم البيولوجية التي اعتزل بها بعد مسار استثنائي يدرس للأجيال القادمة.
شكل الظلمي مدرسة حقيقية في الأداء كلاعب كان يمتاز بقراءة ذكية في اللعب وتموضع جيد وسط رقعة الملعب. امتاز بطريقة مذهلة في قطع الكرات سواء عن طريق تدخلات بالقدمين أو الضربات الرأسية، رغم قصر القامة، مع ملء الفراغات التي عادت ما تظهر وسط رقعة الملعب، وهو ذكاء غير عادي بالنسبة للاعب يتمنى أي مدرب أن يكون ضمن صفوف الفريق الذي يشرف عليه تقنيا. وفي عز الانضباط التكتيكي لم يكن يتردد في رسم لوحات من المتعة والإثارة بما في ذلك “القنطرات الصغيرة” وهي اللقطات التي شدت الناظرين في جل الملاعب الوطنية.
جاب كل الأرجاء وهو يدافع عن القميص الوطني كلاعب وسط ميدان متأخر. وحتى عندما طلب منه المدرب الفرنسي “فونتين” اللعب كمدافع أيسر لم يتردد في قبول الأمر رغم الصعوبة التي وجدها بحكم طبيعة تحرك جسمه.
بعد الاعتزال، وجد الظلمي مبررا للانعزال والابتعاد عن الأضواء إلا من دائرة ضيقة من أقرب الأصدقاء، لكن ليسوا كلهم أصدقاء الخير والنصيحة السديدة. زاد في انطوائه وعجز عن الخروج من الدائرة الضيقة وتاه وسط ظلام قاس. وحتى عندما كان يظهر للعلن كان ظهوره مؤقتا وسرعان ما يعود لممارسة طقوس العزلة والانطواء والصمت الداخلي غير المفهوم.
للأسف لم يجد في الأصدقاء من يعيده بطريقة سلسة للمجال الرياضي، اللهم من مناسبات تكريمية رمزية تنتهي في حينها. وحتى المؤسسات الرياضية الوطنية لم تفكر في كيفية إدماج الظلمي ضمن هياكلها والاستفادة من فخامة الاسم وقيمة الرياضي ووداعة الإنسان. 
غادرنا الظلمي في وقت كنا نريد أن يستمر بيننا كاسم كبير يلهم الأجيال القادمة.. غادرنا في صمت بعد عطاء وفير ونكران للذات. 
الظلمي ابتعد هذه المرة بدون رجعة.. لن يظهر كما عهدناه بين الفينة والأخرى.. لكن عزاءنا في كل ما قدمه بسخاء دون أن يطلب أي مقابل.
عذرا الظلمي لم يمت، سيظل بيننا، لأنه من طينة المبدعين الخالدين.

 محمد الروحلي

Related posts

Top