الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة السادسة

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

أحمد بورة …نادل مقهى دونكيشوط

النجاح يكون دائما حليف الأشخاص الذين يحملون في طيات أفكارهم الكثير من الشغف و الاندفاع. أحمد بورة  مثال على ذلك. بعيدا عن أهله، و في سن مبكرة تفرض الالتصاق بالفصل للدرس والتحصيل، ستظهر شخصية أحمد بورة الذي يضع  المثابرة و النجاح في مقدمة أهدافه، و لا يخشى الفشل أبدا.  كانت تصدق عليه مقولة ” الخوف سيمنعك من القيام بأي عمل جديد ومبتكر، و إذا لم أنجح في عمل ما، فهذه ليست نهاية العالم، فقط سأركب دراجتي وأرحل” .
كثيرون من أقرانه مروا بتجارب حياتية وضغوط صعبة فانهاروا. ولكن أحمد بورة جعل التجارب الحياتية الصعبة والفشل حافزا لتحقيق نجاح مذهل.
كان أحمد بورة يستعجل حلول يوم السبت ليزور ابن عمه الغليمي عبد القادر بن مولاي الجيلالي الذي كان كفيله لدى إدارة المؤسسة، وكان نادلا بمقهى دون كيشوط.
 مراعاة منه لضعف منحته الدراسية قال له يوما، بصوت الناصح المتردد :
-آش ظهر ليك أولد عمي تجي تشتغل نادل معايا فمقهى دونكيشوط باش تتعاون على قرايتك، وأنت عارف باللي هاذ المقهى عليها إقبال كبير من ناس فالمستوى، واغير البوربوار –الإكراميات- ديالهم قا درة تحسن أحوالك المادية.
اقتراح ابن عمه الغليمي جاء في الوقت المناسب. لم تكن للصبي طاقة على مزيد من التحمل. كانت قوته مستمدة من إرشادات والده الذي كان يردد على مسامعه أن الإنسان الذي لا يتألم لن يتعلم، والنجاح لا يأتي مصادفة ولكن يأتي من الإصرار واكتساب الخبرات والتخطيط المستمر.
شعر أحمد بورة  بالسرور لعرض ابن عمه المغري.. وأخيرا سيتخلص من ضيق حالته المادية ويلبي بعض احتياجاته الضرورية دون تقتير..
وهو في طريق العودة إلى بيت ابن العم، كان يسترق السمع لرنين النقود المعدنية في جيوب لغليمي ويستعجل سماع صوتها ترقص فرحا بجيب معطفه أو بحصالة نقوده التي يكاد أتحسسها قبل حتى أن يشتريها.
ولما وافى ميعاد التحاقه بعمله الجديد كنادل، وجدته بباب المقهى ساعة قبل افتتاحها، مرابطا بقميص أبيض وسروال أسود وربطة عنق جميلة، أمده بها ابن عمه عبد القادر. وإن كان لا يفقه من أمر شغله الجديد شيئا، فإن أمر التجارة لم يكن خافيا عنه لكونه، ومنذ سن الثامنة من العمر،  جال برفقة خاله بودال خليفة الرحالي كل الأسواق الأسبوعية بمناطق خنيفرة، وتادلة، والفقيه بن صالح، وأفورار. كان يساعده في بيع بعض المنتوجات اليدوية المحلية من السلال والأطباق والقبعات والمراوح المصنوعة من القش والدوم. كان يقوم بدور القابض والحيسوبي بكل جدية وأمانة، وحتى لما تحسنت أحواله التجارية واستبدل نشاطه ببيع الملابس الجاهزة استمرت جولاته مع الخال جل نهايات الأسبوع والإجازات الصيفية حتى حصل على شهادة التعليم الإعدادي .
بدأت طلبات الزبناء بمقهى دون كيشوط تنهال على أحمد بورة من كل جانب، واعتاد رواد المكان من مغاربة وأجانب مناداته رغم صغر سنه ب “السي أو مسيو أحمد”، الكل يعامله باحترام خاصة عندما يفتح بينه وبينهم حوار عارض يقفون من خلاله على إجادة هذا الشاب الملالي للغتين الفرنسية والإنجليزية وامتهانه حرفة نادل أوقات فراغه إصرارا منه على متابعة دراسته وتحسين أحواله المادية.
كان يستجيب للزبائن بخفة ونشاط. عمل جاهدا في المقهى على محاكاة تجربة وخبرة عبد القادر، يحمل صينية شاي هنا وفنجان قهوة هناك… ولا يفرط في مراجعة دروسه المطلوبة للحفظ كلما سنحت له الفرصة بذلك، ويقفل راجعا إلى سكنه الدراسي سيرا على الأقدام ليوفر ثمن المواصلات.
وإلى اليوم، كلما أخذ الدكتور أحمد بورة الحنين إلى تلك الفترة من حياته، يزور نفس المقهى ويستعيد بها ذكرى أول أجر أو بقشيش تقاضاه كنادل. ويرى نفسه، حتى اليوم، في وجه أي نادل شاب بها، ويجزيهم بإكراميات تبعث البسمة على محياهم، وتبعث فيه فخر الانتماء لجيل لا يقدر كفاحه بثمن..
جيل واجهته صعوبات ومحن أهم فترات حياته الدراسية دون أن يحترق، مثله في ذلك مثل سبائك الذهب الصافي.
إن الاستقلال عن بيت العائلة في اعتقاد أحمد بورة  تجربة ضرورية للشباب الساعي إلى تشكيل شخصية قوية تمنحه مواجهة مشاكل الحياة اليومية بعيدا عن مساندة الوالدين والأقارب. ويجد بها نفسه موطدا صداقات بينه وبين زملاء دراسته مستعيضا بهم إلى حد ما عن دفء الأسرة.
في السكن الداخلي، توطدت صداقاته مع طلبة مجدين يقتسمون معه المشاغل والمشاكل اليومية الصغيرة، وبفعلها استطاعوا جميعا  التكيف مع متغيرات الحياة الدراسية والتغلب على روتين تشابه الأيام والمواقف والمشاهد، مع اختلاف العقول والفصول والإكراهات.
وممن عاشرهم أحمد بورة بداخلية ثانوية مولاي الحسن يذكر الطبيب الجراح بباريس عمر قاشوحي،
والكاتب العام السابق لوزارة الملاحة المرحوم التيجاني الغانمي، ومفتش التعليم السابق السيد مصطفى وحيد، الطبيب والمدير السابق للمستشفى الإقليمي لخنيفرة السيد أوشريف خلاف، والمحاسب المتخصص بإدارة المقاولات السيد محمد جبران.
وعلى عهد مدير المؤسسة السيد محمد الحجوي، من أساتذته وهم كثر يكتفي بذكر  أستاذ مادة الترجمة السيد عبد القادر المازني الذي أصبح فيما بعد مديرا لثانوية محمد الخامس، وأستاذ مادة الرياضيات السيد بيلوزيbelouzi ، وأستاذ مادة الفلسفة السيد كورتيز cortez الذي ترقى إلى منصب مستشار ثقافي بمؤسسة معجم لو بوتي روبير، واخرون يستسمح ان لم يذكرهم بأسمائهم.

 إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top