الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة 12

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

نضالات دفاعا عن حرمة الجامعة المغربية وعن مغرب للجميع

سيقف أحمد بورة عند محطة مفصلية في حياته، ويلج عهدا جديدا بانتقاله للرباط من أجل متابعة دراسته الجامعية داخل أول كلية طب وصيدلة ف تاريخ المغرب. حددت مدة التكوين في الطب العام في سبع سنوات، أما التكوين في التخصص الطبي فبرمجت مدته ما بين ثلاث وخمس سنوات حسب التخصص.
أن تخطط لمستقبل يبعد عنك مسافة عشر سنوات على أقل تقدير، لم يكن البتة اختيارا سهلا، ولا قرارا يسيرا، بل تقاسمت أحمد بورة، قبل اتخاذه، أفكار متعارضة واجتاحته تساؤلات ومخاوف متلاحقة، تقلبت في عقله وبعثرت أوراقه، قبل أن يحسم في هذا الأمر مغلبا شغفه وتعلقه بمهنة الطب التي تعايش معها منذ وقر الطب في ضميره كمهنة إنسانية وعى شقها التقليدي بتقربه من الوالد تغمده الله برضوانه.
وجاءت السنة الجامعية لتحتضن أرجاء الكلية التي أحدثت توَا حلما أضحى في نظري حتما سيتحقق، ولو حتى بعد حين من الزمن.
وتوكلت على الله، متسلحا برضا الأبوين الموشوم في مخيلتي وقتئذ بقبلات أمي الحانية وبآيات من القرآن الكريم التي قرأها على الوالد، وبدعواتهما لي عند الوداع بالنجاح والتوفيق.
في هذه الفترة كان أحمد بورة قد بلغ سنا يدفعه إلى اختيار لون سياسي يجسد أو يقترب من فلسفته في الحياة، وكان جل القاطنين بالحي الجامعي من المتحمسين للفكر التقدمي، المعتنقين للفكر الإصلاحي اليساري.
كان أحمد بورة ورفاقه، مقتنعين أنهم، بمعاكستهم للأمر الواقع، سائرين لا محالة ببلدهم إلى طريق التغيير.
 وكانوا “هم، يعتبرون أحمد بورة ورفاقه متلبسين بنزعة ثورية مندفعة، ويصنفونهم ضمن خانة الخصوم المعاندين، مع أن كل تحركات هؤلاء الشباب لم تكن تصب إلا في إطار المطالبة السلمية بالإصلاحات دون الجنوح إلى العنف .. ورغم الظروف المحتقنة فإن الفترة على قتامتها لم تخل من تفتح على آفاق الحوار الأحب.
كان أحمد ورفاقه يعتبرون الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بمثابة مدرسة نضالية رائدة وإطار للتكوين السياسي والفكري والمعرفي والتأطير الأكاديمي بالنسبة للعديد من الأفواج والكوادر والأطر في مختلف المجالات التي تخرجت من الجامعة المغربية وأصبحت تحتل مواقع هامة داخل المجتمع. و ظل دائما يرى، في قراءته لمسار نشأة وتطور هذه المنظمة النقابية الطلابية، أنها مرت من لحظات المخاض الصعب وبعدة مراحل منذ التأسيس وصولا إلى الكثير من المؤتمرات والمحطات البارزة التي وشمت مسار هذه التجربة، مثل محطة المؤتمر الثالث الذي انعقد بتطوان في 23 يوليوز 1958 وصادف ما عاشه آنذاك حزب الاستقلال من تصدد وانشقاق حركة 25 يناير “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” وإعلان أ.و.ط.م القطيعة مع الجناح التقليدي داخل الحزب وتبعيتها لحزب عبد الله إبراهيم مع ما ترتب عن ذلك من انعكاسات وتداعيات لعدم الانضباط لمبدأ الاستقلالية، ومن أبرز مظاهر وتجليات التبعية للإطارات الحزبية التي كانت متواجدة بالشارع السياسي خلال تلك الفترة، العديد من المواقف التي ظل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب يتحاشى إعطائها بخصوص جملة القضايا المطروحة آنذاك، مثل مسلسل التصفية الجسدية والاعتقالات والاغتيالات التي عرفها المغرب خلال مرحلة (56-60) ومجموع الأحداث السياسية والوقائع التاريخية إبان السنوات الأولى لما بعد سنة 1956 وكذا مسألة الاستقلال الذي حصل عليه المغرب بموجب اتفاق إكس ليبان.
كان الشاب أحمد بورة ينظر إلى الحركة الطلابية المغربية، من خلال المنظمة العتيدة أ.و.ط.م، رافدا من روافد الحركة المناضلة في مختلف فترات تاريخ المغرب المعاصر، مرتبطة بعمق الهموم الطلابية والجماهيرية وذات امتداد نضالي وعمق تاريخي وسيرورة حافلة بالمعارك دفاعا عن حرمة الجامعة المغربية.
في مرحلة النضال في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في الدار البيضاء ثم بعدها في باريس، والذي ارتبط في كثير من الأحيان بمخاض الصراع السياسي الذي شهده المغرب في مختلف الفترات السابقة وتقلبات الوضع الدولي آنذاك وطبيعة الشروط الذاتية لهذا الإطار، تعرف أحمد بورة على العديد من الشباب الذين سيصبحون قادة سياسيين وشخصيات وازنة ف البلاد، يذكر منهم وزير المالية والاقتصاد السابق، فتح الله ولعلو الذي سبق له تولي من صب الكاتب العام للاتحاد الوطني لطلبة المغرب بفرنسا، والمستشار الملكي الفقيه الدستوري عبد اللطيف المانوني الذي عينه جلالة الملك محمد السادس رئيس للجنة تولت اقتراح التعديلات الدستورية صاحب كتابي “العمل العمالي بالمغرب” و “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب”، ووزير حقوق الإنسان السابق وعضو المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، والأمين العام للحزب الليبرالي المغربي النقيب محمد زيان، والسفير والكاتب العام السابق للاتحاد الوطني لطلبة المغرب محمد الخصاصي، والصحفي المعارض البارز حميد برادة، ورئيس جمعية هيآت المحامين بالمغرب ونقيب هذه الهيئة بالدار البيضاء (1983-1985)، العضو السابق للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان (1997-2002) وهيئة الإنصاف والمصالحة عبد العزيز بنزاكور، ومحمد الحلوي المحامي الذي انتخب بمناسبة المؤتمر العاشر رئيسا للاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي عقد في شهر أكتوبر من سنة 1965 وكذلك عبد العزيز المنبهي الذي انتخب بدوره على رأس المنظمة خلال المؤتمر الخامس عشر المنعقد شهر غشت من سنة 1972.

 إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top