يبدأ عباس كياروستامي يمحو الحدود الفاصلة بين الوثائقي والروائي بين لحظة التصوير والفيلم النهائي حيث يحتفظ الفيلم في شكله النهائي ببقايا المسار الذي أدى إلى وجوده، يعري الحكاية ويجردها من كل ما قد يخلق تأثيرا ما قد يكون حجابا أو وسيطا بينه وبين جوهر الأشياء أو ما قد يحسه زائدا ليصل في النهاية إلى خط درامي بسيط إلى حد البداهة يمكن تلخيصه مثلا في جملة: “أين منزل صديقي” التي هي في نفس الآن عنوان الفيلم. رغم ذلك يحس عباس كياروستامي أن ذلك ليس كافيا فيعري ويطهر أكثر ليحتفظ بأدني ما يمكن أن يحتفظ به ليوجد العمل (مستعيدا منطق المسرح الفقير لكروتوفسكي ). في الفيلم الوثائقي “أ – ب – س إفريقيا” يذهب في سفر أول بحجة التحضير برفقة مدير التصوير وكل منهما يحمل كاميرا يدوية صغيرة، لكنه عندما يعود يقرر أن ما صوره هو الفيلم. هنا أيضا يتخلى كياروستامي على ما يمكن أن يكون وسيطا بينه وبين الواقع أي عن تحضير الفيلم وبرنامج عمل، عن الطاقم التقني وجودة الصورة والصوت لأن خطة العمل التي يقترحها تجعله يقتنص الواقع في عفويته دون أي ميزانسين. في فيلم “تين” “عشرة” وحدة المكان لا تتجاوز فضاء تاكسي تقوده امرأة حيث الكاميرات صغيرة مثبتة عند مقدمة السيارة وحيث الأشياء تحدث وكأنها لحظات مقتطعة من الحياة، وفي نفس الآن نحس أنها ليست كذلك ولا نتوقف عن طرح أسئلة محيرة ومقلقة حيث لا نعرف الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، بين الكتابة والارتجال وكيف وصل المخرج المؤلف إلى هذه النتيجة التي تشبه السحر.
تطورت سينما عباس كياروستامي بشكل طبيعي ووفقا لمنطق ذاتي، ولكنها في نفس الآن كانت دائما مواكبة للتطورات التي عرفتها السينما، خصوصا من الناحية التكنولوجية، وتطورت نحو ما لا يشبه بداياتها وأخذت مسارات غير متوقعة لكن منسجمة، وكأن هذا المسار ترجمة حرفية لمشروع جمالي سابق الوجود، لكننا نعلم أنها ليست كذلك لأنها استمرت بنوع من العفوية وجاء كل فيلم كنتاج للحظة ولادته وإنجازه.
تشكل المشروع الجمالي لسينما عباس كياروستامي، من خلال تبلور فكرة الفصل التدريجي بين المخرج والمؤلف (المؤلف هنا ليس يعنى كاتب السيناريو)، وتطورت في أفق التخلص، عبر مجموعة من الأفلام، من المخرج لتحتفظ في النهاية بالمؤلف. يموت المخرج وتموت معه إدارة الممثلين ونمط إنتاج تقليدي ينبني في أغلبه على وجود نص سيناريو ثم قراءة إخراجية أي سينما لا تتخلص نهائيا من التراث الأدبي الذي التجأت إليه في بداياتها لاختصار الطريق إلى الجمهور.
ربما لن ينتبه العالم بعد، أن هناك السينما قبل عباس كياروستامي والسينما بعده، لأن ثورته ثورة هادئة وبدون شعارات وبدون أية إستراتيجية دعائية، في زمن العولمة وهيمنة مطلقة لنفس النمط الهوليودي على السينمات الوطنية وعلى العقول. في زمن نجد في بلدان نامية مخرجين يحاولون، بإمكانيات بسيطة متواضعة وفي غياب أي رؤية أو مشروع ثقافي، إنجاز أشباه الفيلم الأمريكي أو سينما مفبركة بوصفات أفلام المؤلف تتموقع داخل السوق من خلال الحصول على جوائز مهرجانات كبرى وهيمنة حلقة ضيقة من المخرجين الذين تختفي وراءهم كبريات دور التوزيع والإنتاج الأوربي… أمام هذه الهيمنة من الصعب أن ينتبه العالم لما أنجزه عباس كياروستامي، يلزمنا القليل من الوعي النقدي والكثير من المقاومة، مقاومة الكليشيهات والأفكار الجاهزة التي نتقبلها على أنها بديهية.
عباس كياروستامي مخرج ذكي وعفوي لا يحسب الخطوات ولا تتطور أعماله بمعرفة الوصفات السحرية للحصول على السعفة الذهبية وجوائز باقي مهرجانات خمسة نجوم. عندما يتحدث باعتزاز بلغة فارسية، تحس أن الرجل هنا رغما عنه، لأنه ربما كان يفضل أن يكون في مكان قصي من العالم يصور أو يرسم أو يكتب، تحس كذلك أن النجاح والنجومية شيء ثانوي بالمقارنة مع تجربة إنجاز الفيلم أو أي عمل فني أو لقاء أشخاص حقيقيين يجعلونك تتعلم درس الحياة.
في آخر عمل له، يعيد عباس كياروستامي، بتواضع، الحياة للوحات مهمة من التاريخ التي أثرت في تكوينه، يعود إلى نقط الصفر إلى ما قبل السينما، يعود لبدايته كمُتخرج من مدرسة الفنون الجميلة. لأن السينما انتهت بالنسبة له بعد فيلم “تين” “عشرة”.
بقلم: محمد الشريف الطريبق