بداية أشكر مجلس الأمناء في الهيئة العربية للمسرح على اختياره لي لإلقاء كلمة يوم المسرح العربي. وأتمنى أن يتبنى المسرحيون العرب هذا اليوم في كل أقطارهم. فيحتفلون به معاً. ويلقون كلمته معاً. وبذلك يصبح هذا اليوم عربياً بامتياز. فهو فخرٌ للمسرحيين العرب، ونافذةُ ضوء للمستقبل.
وقد عملت في المسرح أكثر من أربعين عاماً. وكان لي فيه مجموعة قواعد سرت عليها طوال هذه المدة. وهي أن يعالج المسرح هموم وقضايا عصره، وأن يتوجه إلى الجمهور العريض في شرائحه كافة، وأن يكون ممتعاً مثيراً فاتناً. ولهذا كانت فرقتنا المسرحية تجوب أنحاء سورية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وتقدم المسرحية الواحدة مرات كثيرة كانت تصل أحياناً إلى ثمانين أو مائة مرة. وكما اهتممت بالمسرح السوري فقد اهتممت بالمسرح العربي. فأدركت أكثر خصائصه وميزاته وعيوبه. ووجدت أنه يتنوَّع في أقطاره تنوع الإبداعات الخاصة بكل قطر، ويتمتع بخصائص واحدة رغم كل التباينات والتناقضات فيه. ومن هنا أصل إلى السؤال الأهم الذي يليق بهذا اليوم وهو:
هل المسرح العربي المعاصر بخير؟
لقد عرف العرب المسرح – كما هو مُتَداول في كتب النقد- منذ ما يزيد قليلاً عن قرن ونصف قرن. لكنهم خلال هذه المدة القصيرة أتقنوه وتفننوا فيه كتابة وإخراجاً وتمثيلاً، كما أتقنوا بقية أشغاله المتممة له.
وما كاد القرن العشرون ينتهي حتى كان المسرح في جميع ــ الأقطار العربية على تفاوت بسيط بينهاــ قد توغَّل في حياة الناس. فأمتعهم وثقَّفهم وناقش معهم أخطر قضاياهم. فكانت ليالي العرب مع المسرح سمراً ومتعة وثقافة. وكان له في كل قطر طعوم وألوان. ومدارس واتجاهات. فإذا جمعت هذه الطعوم المختلفة وتلك المدارس المتعددة إلى بعضها البعض، تبين لك أن المسرح العربي صار واحداً من أغنى المسارح في العالم.
لكنه منذ أواخر القرن العشرين حتى اليوم صار مضطرباً ضائعاً لا يعرف ماذا يجب أن يقول. ويتخبط في أشكاله فلا يعرف كيف يتقنها. وهذا ما جعله عاجزاً عن تأدية مهمته الاجتماعية والفنية والجمالية التي كان يقوم بها. وعجزُه هذا جعل جمهوره منفضاً عنه. فلم يعد يحظى اليوم إلا بنخبة ثقافية أو شبه ثقافية دون أن يحظى بجماهيرية واسعة كانت له في الكثير من مراحله.
واضطراب المسرح العربي اليوم وضياعه نتيجة حتمية لأوضاع الوطن العربي الذي يعيش اليوم تمزقاً في بعض أقطاره، وتحمحماً مكبوحاً برغبة التغيير الاجتماعي في بعض أقطاره، وضبابيةً في النظرة إلى المستقبل في كل أقطاره. ولعل المسرح السوري اليوم يشكل النموذج الأوضح لكل الاضطراب الناتج عن التمزق. فهو متوقف في بعض مدنه. وهو ضعيف في بعض مدنه. وهو مكبوح مقيد في كل مدنه. فيكاد يكون ممسوح الملامح في تلك الأرض التي دفعت بالمسرح العربي من قبل خطوات إلى الأمام.
وبهذه المناسبة أتمنى من الشعوب العربية أن تقف مع الشعب السوري في محنته التي ينزف دمَه فيها وهو الذي وقف معها في مِحَنِها.
إن لم يكن ذلك بدافع رد الجميل، فبدافع أخوة الدم واللغة والمصير.
إن هذا الضياع والاضطراب وغموض النظرة إلى المستقبل أوجاع يعاني منها كل المسرحيين العرب. وأظن أنها ستزداد إيلاماً ودفعاً إلى كثير من اليأس والإحباط.
وهذا يعني أن المسرح العربي ليس بخير.
لكن الضياع والاضطراب وغموض النظرة إلى المستقبل – والحياة تفرض ذلك – ستكون مخاضاً موجعاً وطويلاً لانبثاق عصر مسرحي عربي جديد. وسوف يكون هذا المسرح الجديد شيئاً مختلفاً عما نعرف، ومستفيداً من تجربة المسرح العربي الطويلة في شتى أقطاره مما نعرف. لأنه سوف يستوعبها ويتتلمذ عليها ويعيدها إلينا خلقاً جديداً يدخل بالمسرح العربي في مرحلة جديدة.
إلا أن هذه الولادة الجديدة لن تتحقق مهما طال الزمن إذا لم يكن المسرح العربي حراً في قول ما يريد، وفي انتقاء الأشكال التي يريد.
لقد مكر المسرحيون العرب في الالتفاف على تقييد حرياتهم، وتلاعبوا على الرقيب الصارم في عهود الاستعمار وفي العهود التالية له.
فقالوا ما يمكنهم قوله وأبدعوا الإبداع كله بهذا الالتفاف. ورغم مكرهم في التحايل على قيودهم فقد بدؤوا ينادون بالتخلص منها للوصول إلى التمتع بحرية القول والفعل منذ الدورة الأولى لمهرجان دمشق المسرحي عام 1969 وفي دوراته التالية. لكن أحداً لم يستجب لهم. فاستمروا في إبداعهم رغم كل القيود المفروضة عليهم.
فهل سيفيدهم التحايل على الرقابة اليوم وهم بانتظار انبثاق الميلاد المسرحي الجديد؟
يمكننا أن نجزم أنه بعد هذا الانهيار العربي الكاسح لن يكون إجبار المسرحيين العرب على التحايل على الرقابة إلا تحجيماً وإعاقةً لقدرة المسرحي العربي. لأنه سيكون عجزاً وليس إبداعاً. سيكون هروباً ولن يكون مجابهة.
ولهذا نريد أن يكون المسرح العربي حراً نريد أن تُقفَلَ مخافر الشرطة في عقول المبدعين نريد أن تتحطم القيود المفروضة على ألسنة المسرحيين وعلى أفكارهم
نريد أن يزول الخوف من قلوبهم عندما يفكرون
فهل يستطيع المسرحيون العرب اليوم انتزاعها بأنفسهم والدنيا جحيمٌ من حولهم؟
إن هذه المطالب ليست فنية وفكرية فحسب، بل هي إنسانية تحفظ للمسرحي العربي كرامته حتى يستوي بها مبدعاً. وإن المطالبة بها والدفاع عنها والإصرار عليها هي التي تعطي احتفالنا بيوم المسرح العربي قيمته. فهو يوم لحرية التفكير ولحرية المطالبة بكسر كل القيود.
وكل عام وأنتم بخير.
بقلم: فرحان بلبل