حين مراجعة المجاميع القصصية المغربية وكذا الأجنبية التي صدرت على امتداد عدة عقود، سواء للرواد أو للكتاب الجدد على حد سواء، من النادر أن نعثر على نموذج منها يتناول الموضوع الذي له ارتباط بشهر رمضان.
هل معنى هذا أن الشهر الكريم لا يوحي للأدباء بأي شيء؟
الملاحظة الأخرى التي يمكن تسجيلها ونحن بصدد إعداد سلسلة من النصوص القصصية للنشر في هذا الفضاء الرمضاني، هو أن أغلب هذه النصوص تتطرق إلى يوم بعينه من رمضان، ألا وهو يوم السابع والعشرين، أو ليلة القدر بالأحرى، وهذا ليس مفاجئا، على اعتبار ما تحبل به هذه الليلة من رموز وإيحاءات.
إننا نفتقر إلى أنطولوجيات في مختلف فنون الأدب، تخص موضوعات بعينها. إن عملية جمع النصوص الخاصة برمضان، بقدر ما هي متعبة؛ فهي كذلك ممتعة ومفيدة، ولا شك أن مكتبتنا بحاجة إلى هذا النوع من الأنطولوجيات التي تتيح لنا الإحاطة الشاملة بالنصوص التي تتناول موضوعا أو قضية بذاتها، بأصوات متعددة.
فانوس رمضان
< بقلم: عبير عبد الله
أرأيتم فانوسي؟ أحلى فانوس رمضان، لمن أقولها؟ أشعر بأن رمضان الماضي أفضل من الحالي، والذي قبله وقبل قبله أفضل مما سيأتي، أين رمضان ورمضان زمان؟
أغلقت باب حجرتي خلفي ثم جلست متربِّعة على الأرض، وفتحت ما أحمل من أكياس وعلب ثمينة، لم تسألني أمي كعادتها إذا تأخَّرت ساعة، ولم يسألني أحد من إخوتي عما أحمل داخل هذه الأكياس، حتى أبي تشاغَلَ عني بالتلاوة في المصحف الشريف بصوته الخاشع بكامل التسليم بقضاء الله، وكأنه لم يهتم بعودتي المتأخرة من عملي في هذا اليوم من أيام رمضان رغم أني لَمَحت عينيه تختلِسان النظر إلى ساعة الحائط لحظة أن فتح لي أحد إخوتي باب الشقة ثم انفراج قسمات وجهه، وكأنه يَحمَد الله في سرِّه وتمتماته بالدعاء بالهداية وراحة البال عندما ألقيت عليه التحية وتركته لأدخل حجرتي، أيتجاهلني الجميع ويتشاغل عني؟! أم أنهم قد سلَّموا بأني مشكلة مستعصية تبحث عن السعادة في ماضٍ ولَّى ولن يعود؟
العيد صِرت لا أشعر به، ولا أفرح رغم أني أحرص على شراء ملابس جديدة بسيطة، اضطر – طبعًا- أن أبتعد عن القصات المَرِحة والألوان المُبهِجة الزاهية؛ حتى لا يقولوا: فلاحة ساذجة خارجة من كتاب تاريخ، أصحابي وأسرتي لا يحبون الخروج في الأعياد للتنزّه؛ بحجة الزِّحام الشديد، وأين سنذهب مع صعوبة المواصلات؟ أأنت طفلة تريدين اللعب مثل الأطفال؟.. و ..و.. أخواتي وأمي يَرين في الكنافة وقمر الدين والمكسرات أنها ضد الرجيم كما أن الأسعار نار، كعك العيد المنزلي (دقَّة)
قديمة، (غَلَبة على الفاضي) والجاهز يملأ السوق
وحتى التليفزيون وكأنه قد تحالف مع الجميع ضدي، فنادرًا ما نسمع ونرى الأغاني والتواشيح الدينية ذات العَبَق والمشاعر الموحية، أين الأذان وقرآن ما قبل المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت ومشاهير المشايخ الذين ارتبطوا معنا بشهر رمضان؟ وأين؟ وأين؟
أما الأطفال، فقد نسوا طفولتهم، ولم يعودوا يلعبون بالفوانيس في ليالي رمضان، ويفضلون مشاهدة مسلسلات التليفزيون وبرامجه متكررة الأبطال، التي تذاع خصيصا في رمضان، متناسيةً حرمة هذا الشهر الكريم، وكأنه شهر الفوازير والرقصات والاستعراضات والموضة، وكأن تعرية البطن وغيرها قمة الاحتشام.
وجدت نفسي تضيق، ولا جديد ولا قديم يُرضيني. رصصتُ فوانيسي على الأرض وحولي في كل مكان، أخرجت لعبي وعرائسي من الدولاب وتحت السرير، أدرت أزرار حركتهم وأشعلت الشموع في فوانيسي القديمة، أطفأت الأنوار.
تلوَّنت الحجرة بألوان حمراء وصفراء وخضراء بجميع درجاتها، تناغمتْ وتناشزت جميع الأصوات والحركات.
هذا فانوس يغني ويرقص. (ماكارينا ماكارينا)
وثانٍ يؤذِّن، وثالث كبير وسط فوانيس صغيرة يغني
(ياللا الغفار)
وهذه عروستي
دبدوبة التخينة تنط وتقفز).)
وهذه.. وهذه.. وهذه.. صنع الصين وسنغافورة وتايوان، وكل خمس دقائق يدخل عليَّ أحد أفراد أسرتي.. هذه أمي
أتحتاجين شيئًا يا ابنتي؟
وإخوتي: ألا تكُفِّين عن هذه الضجة والضوضاء؟! نريد أن نسمع المسلسل! إنها الحالة التي تأتيها مؤخرًا كل رمضان.
ستأخذ وقتها وتنتهي.. أبي: ألا تخرجين قليلاً لزيارة صديقاتك؟ أو يأتين هن لزيارتك؟! و.. و.. قفزتُ من مكاني وأنا أتعثَّر في فوانيسي ولعبي.. وجدتها.. وجدتها.. أجريتُ بعض المكالمات التليفونية لصديقاتي.
أريدكن بعد الإفطار لشيء هام، وضعت السماعة قبل أن تستفسر مني إحداهن عن السبب، أو أن أسمع من أيهن التفسير.
وضعتُ لعبي وفوانيسي جميعًا في أكياس وعلب وصناديق، لم أنسَ (إمساكيات رمضان) الورقية الملونة، ولا زينة رمضان التي أحسن صنعها، دخلت المطبخ وصنعت كنافة وقطائف وخوشاف بمساعدة أمي وأخواتي، فقد اعتقدن أنني أفقت مبكرًا من تلك الحالة التي تنتابني في رمضان، وأنني سأستقبل صديقاتي في البيت هذا اليوم .. تركتهن يعتقدن ما يردن وأنا أطير من الفرح بسرِّي اللذيذ.
استقبلت صديقاتي وحملت كلاًّ منهن أكياسي وصناديقي وما معي من الحلوى وكل شيء.. أوقفت تاكسيًّا، ولم أدع لأي منهن فرصة للاستفسار.
مجنونة أنت؟! متى ستعقلين؟
لقد عقلت، اليوم فقط أنا أكبر عاقلة بينكن.
نظرت كل منهن للأخرى
لن نحتمل جنونك اليوم يا رشا
سيفوتنا موعد المسلسل
لقد تذكَّرت موعدًا، سأتصل بك، أراك غدًا أو بعد غد
اثنتان فقط مَن تحملتا جنوني كما قالتا ووافقتا على اصطحابي؛ أملاً في قضاء سهرة لطيفة أو إرضاءً لي.
أوقفت تاكسيًّا حمل السائق كل الأشياء متضررًا ثم التفت إليَّ:
إلى أين يا آنسة؟
دار أهالينا للأيتام إن شاء الله.
شعرت باستبشاره وهو يقول: كله بثوابه إن شاء الله، أنا تحت أمرك لو أردتِ شراء أي شيء في الطريق، والله الأطفال أحباب الله، فما بالكن إن كانوا أيتامًا؟! آه لو نُطعِمهم ونسقيهم بدلاً من إطعام البالوعات وسلال القمامة بما يَزيد ويفيض، لأسعدناهم وبارَك الله لنا.
كنت فَرِحة جدًّا بدردشة السائق معنا ومرتبكة؛ لأنني سأدخل مكانًا مِثل هذا – ملجأ الأيتام – لأول مرة، وبطرف عيني لمحت القلق الذي أصاب صديقتي، وقد أمَّلتا أن تَمضيا وقتًا لطيفًا لا همَّ فيه ولا غمَّ، ولا أمل في تراجعهما الآن.
طرقنا الباب، فُتِح لنا، الجو هادئ لا ضوضاء فيه، هالني العدد الكبير للأطفال المكتوب على إحدى اللافتات، وأنا أرى السكونَ حولي في كل مكان، فطفل واحد في أي بيت كفيل بنشر الصياح حوله حتى الجيران، صعِدنا السُّلم، الأدوار متشابهة، دخلنا إلى ممر ضيق ينتهي بحجرة المديرة المسؤولة، تسلَّمت ما معنا وأعطتنا إيصالاً.
ضاق صدري، ما لهذا جئتُ! نظرت إلى صديقتي، وقد وقفتا استعدادًا للانصراف، وكأن مهمتهما قد انتهت، طلبت رؤية الأطفال، وافقت المسؤولة وأشارت إلى إحدى المشرفات لتوصلنا وهي تُخبِرنا بأن كل ما يَصِل إلى الدار من هدايا وأموال للأطفال يَصِل للأطفال، ولكن يمكننا توزيع هذه الهدايا عليهم إذا كان لدينا متَّسَع من الوقت، فسارعت صديقتاي:
لا داعي ما دام أن الهدايا ستَصِل إليهم.
نعم؛ فليس لدينا أي وقت.
وجذبتاني من يدي وهما تخشيان المناظر التراجيدية المُحزِنة وتأثيرها علينا جميعًا.
سمعنا صوتًا رقيقًا وكأنه ينادي أحدًا (بس.. بس.. ماما .. ماما) التفتنا.. وجدنا ثلاث بنات صغيرات تتوارين خلف الباب تمدَّدن بأعناقهن، إحداهن سمراء خمرية اللون نصف شعرها منكوش والنصف الآخر ملموم بشريط على هيئة ذيل حصان قصير،
جذبتني من يدي وطوقتني بذراعيها الصغيرتين، وهي تُقبِّلني في أقصى موضع يَصِل رأسها الصغير إليه من جسمي وهي تَشِب على أطراف أصابعها.
ماما .. ماما.. تعالي لتري حجرتنا.. ستعجبك كثيرًا، أنت حلوة
جدًّا يا ماما. اقعدي – بالله عليك- معنا قليلاً، أنا أحبك جدًّا يا ماما
وسط ذهولي وفرحتي ووقع كلمة ماما على أذني وفي قلبي لم أنتبه إلى أن ما حدث معي حدث مع صديقتي.
ما أن وقفنا بالباب حتى سمعنا أكبر وأحلى
(هيه.. هييه)
في الدنيا، وجرت الصغيرات إلينا مرحِّبات وقد فرشن قلوبهن من أجلنا بساطًا وفراشًا.
لحظة واحدة، تكهرب الجو، بإشارة من يد المُشرِفة – التي جاءت إثر ارتفاع صوتهن – بالتزام الهدوء حتى لا يُزعِجن الضيوفَ، وأيَّدتها في ذلك، (الأم البديلة كما يُطلِقون عليها)
معتذرة بأنها تتعب معهن حتى يَلتزِمن الهدوء والأدب، فانكمشتْ كل منهن في ركنها بخضوع.
سارعنا جميعًا: لا لا.. هن أحلى بنات في الدنيا.. نحن نريد أن نظل معهن على راحتنا، فتركتانا وهما تُحذِّران البنات من الشقاوة وعدم الالتزام، وإلا فتحنا الأكياس والصناديق وسط فرحة الصغيرات وكأننا فتحنا كنزًا، ووزعنا ما بها عليهن.. أكلنا الحلوى وشربنا العصائر، لعبنا بالفوانيس والعرائس، تفجَّرَت الأمومة والطفولة كلتاهما بداخلي، صرت طفلةَ أمٍّ وأمَّ طفلةٍ، أنا التي نسيت من أنا؟! مجرد آلة تعمل وتدرس بقلب شغلته الحياة عن معنى الحياة.. غنينا كل أغاني رمضان الجميلة، صنعنا من البالونات والعلب طبلة المسحراتي.
لعبت ورقصت مع البنات. بناتي أنا، وكأنني حملت فيهن جميعًا عمري كله وولدتهن الآن فقط، بل أنا التي وُلدت الآن.
الفرحة في عيون الصغيرات البراءة (الشقاوة) المواهب الكامنة فيهن.. مشاعرهن المتدفقة، ظمَؤهن للحب والحنان، رقتهن المتناهية، أصواتهن الناعمة، حرمانهن القاتل من
لمسة، همسة، قُبْلة، حضن دافئ، ابتسامة حب لا شفقة، تدليل لا يَتبعه زجر، ربتة كَتِف، نفَس حار يبث حنانًا.. حبًّا .. رضًا.. هدوءًا.. سكينة، يبث الحياة.
ماما أنا أحبك جدًّا.. ماما لا تتركيني.. ماما ارجعي لنا بسرعة، ماما هل ستأتين ثانيةً؟ ماما هل تحبينني؟ ماما هل أنا حلوة؟ أرأيتِ عروستي؟ فستاني؟ فانوسي؟ فانوس رمضان؟!.. من قالها لي؟ مَن لم يقلها؟
أنا ماما، أنا أم، أنا إنسان، لا أنا قلب يَنبض ويُحِس ويحب، أنا الحياة.
< عبد العالي بركات