لم يعيشوا حياتهم جزافا، بل كانت لهم رسالة أرادوا إيصالها للناس، إنهم أولياء الله الصالحين الذين خاضوا تجربة روحية وتأملا وجوديا لتحقيق الوعي بمقامات التقوى، وبما أننا في شهر العبادة والذكر، تأخذكم “بيان اليوم” طيلة أيام شهر رمضان المبارك، في صحبة أشهر أعلام التصوف في الإسلام، لنسافر معهم إلى عوالم العشق الإلهي، ونسبر أغوار عالم التصوف وخباياه، ولنتعرف أيضا على التنوع الكبير في أشكال الولاية والطرق إلى الله.
الرحلة السابعة عشر: عمر بن الفارض
“إن الغرام هو الحياة فمت به، صبا فحقك أن تموت وتعذرا”
سلطان العاشقين، وشاعر الغزل في الحب الإلهي، من أبرز شعراء الصوفية، فبحكم حياته الصوفية التي كان يحياها منذ بدأ سياحته بوادي المستضعفين بالمقطم، لابد أن يكون مثله كمثل كثير من الصوفية فيما يستعملون من رمز وما يؤثرون من كناية أو إشارة يعمدون فيها إلى إخفاء أسرارهم وستر حقائقهم عمن ليس من طريقهم، وليس من شك في أن ابن الفارض كان قبل التجريد والسياحة إنسانا كغيره من الناس يخضع لما يخضعون له من مطالب الحس ورغبات النفس، ويتأثر بما يتأثرون به من جمال يتجلى في مختلف الصور الإنسانية والحيوانية والجمادية”.
هو أبو حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي، أحد أشهر الشعراء المتصوفين، قدم أبوه من حماة بسورية إلى مصر التي ولد فيها سنة 576 هـ، ولما شب اشتغل بدراسة الفقه فأخذ الحديث عن ابن عساكر، ثم سلك طريق الصوفية ومال إلى الزهد، ثم حج وأقام بالحجاز خمسة عشر عاما معتزلا الناس منصرفا إلى العبادة، ثم عاد إلى مصر وبقي بها حتى توفي سنة 632 هـ ودفن بجوار جبل المقطم في مسجده المشهور. كان والده من أكبر العلماء زهدا وورعا، وكان يلزم ولده في صغره بالجلوس معه في مجالس العلم، ما أثر في الابن مبكرا فنشأ على حب العلم والزهد في الدنيا مما جعل طريقه إلى أهل الصوفية سالكا.
لم يترك ابن الفارض من الآثار سوى ديوان صغير نسبيا يتألف من نحو 1850 وهو على صغره من روائع الشعر العربي، ويأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد ديوان ابن الرومي في الحب الإلهي ولهذا الديوان خصائص فنية وصوفية، ولعل أظهر ما يمتاز به شعر ابن الفارض من الناحية الفنية في الإسراف في الصناعة اللفظية أو الإغراق في المحسنات البديعية، وهذا برأي النقاد أن ذلك طبيعي لأنه كان يعيش في عصر يمتاز بكثرة الجناس والطباق والبديع وهو عصر التصنع والتكلف، مع ذلك فقد امتاز شعر ابن الفارض برقة اللفظ مع الجزالة والمتانة ودقة المعنى وعمق الفكرة والسلاسة والوضوح وبصدق الحس وسلامة الأسلوب وبعد الخيال وجمال الصورة.
مر حب سلطان العاشقين بمراحل كما يصفها الباحث مصطفى حلمي، في المرحلة الأولى أحب الهوى وهي بداية تكشف المعنى عند ابن الفارض بأنه إيثار الحب في نفس المحب وتحمل المشقة والألم لأجل رؤية المحبوب وسماع كلامه بلا شكوى، لكنه يرضى على جميع ما يصيبه من أهوال المحبة، ومن هنا كانت المرحلة الأولة لحب ابن الفارض مرآة واضحة ظهرت على الأثرة وحب النفس من ناحية والرضا من ناحية أخرى، وفي هذا الطور يدرك ابن الفارض أن الوصول إلى المحبوبة الحقيقية والتحقق بشهود الذات لا يتحققان بالحياة النفسية، بل يتحققان بالموت، الذي لا تبقى معه بقية من حظ أو مطمع في غرض، والذي تخلص فيه النفس من كل العلائق.
في المرحلة الأخيرة، يقول مصطفى حلمي عن الوصال بعد الفناء: “يعود إليه إدراكه بهذه الصفات التي تزداد وضوحا لأنها تتحول إلى صفات روحية بحتة، ومعنى هذا أن أرقى أحوال الصوفية حالة إيجابية لا سلبية؛ لأن الصوفي يشعر فيها ببقائه لا بفنائه، ولكنه بقاء بالصفات الإلهية والأعمال الإلهية لا بصفاته هو وأعماله. فهو يظهر بين الناس بهذه الصفات والأعمال، لكنه يحتفظ لنفسه بالصلة الشخصية التي تربطه بالحق، ويشعر بأنه متحد به مع مخالفته تعالى للحوادث.
يقول ابن الفارض في إحدى قصائده:
زدني بفرط الحب فيك تحيرا… وارحم حشى بلظي هواك تسعرا
وإذا سألتك أن أراك حقيقة… فاسمح ولاتجعل جوابي لن ترى
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا… سر ارق من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها… فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله… وغدا لسان الحال عني مخبرا
> إنجاز: أنس البشارة (صحافي متدرب)