حين مراجعة المجاميع القصصية المغربية وكذا الأجنبية التي صدرت على امتداد عدة عقود، سواء للرواد أو للكتاب الجدد على حد سواء، من النادر أن نعثر على نموذج منها يتناول الموضوع الذي له ارتباط بشهر رمضان.
هل معنى هذا أن الشهر الكريم لا يوحي للأدباء بأي شيء؟
الملاحظة الأخرى التي يمكن تسجيلها ونحن بصدد إعداد سلسلة من النصوص القصصية للنشر في هذا الفضاء الرمضاني، هو أن أغلب هذه النصوص تتطرق إلى يوم بعينه من رمضان، ألا وهو يوم السابع والعشرين، أو ليلة القدر بالأحرى، وهذا ليس مفاجئا، على اعتبار ما تحبل به هذه الليلة من رموز وإيحاءات.
إننا نفتقر إلى أنطولوجيات في مختلف فنون الأدب، تخص موضوعات بعينها. إن عملية جمع النصوص الخاصة برمضان، بقدر ما هي متعبة؛ فهي كذلك ممتعة ومفيدة، ولا شك أن مكتبتنا بحاجة إلى هذا النوع من الأنطولوجيات التي تتيح لنا الإحاطة الشاملة بالنصوص التي تتناول موضوعا أو قضية بذاتها، بأصوات متعددة.
مغامرة جميلة
< بقلم: سعد نجاع
لم يكن إبراهيم سوى ذلك الشاب الذكي والذي كان دركيا في سنوات العشرية السوداء، حيث قادتني معه جولة في واحد من شهور رمضان في التسعينات عندما قاربت الشمس على الغروب، وأنتم تعلمون جيدا مساءات رمضان في مدينة بريكة والمشحونة بغضب الصائمين، فهذا ”تُوَزوِزُ له الشمة”، وذاك قد طافت بجبينه “ذبانة نتاع قارو”، وآخر لم ترس به قوارب “القيلولة” التكساسية حين تجوب شوارعنا ظهرا. الكل يعزف على نَايِه. ويكفيك تَغزُّلا بمدينتنا العريقة. كانت الجولة لعرش “لافراض” أين يتواجد من قذفت بهم أهازيج وصخب المدينة ودهاليزها الضيقة إلى
هذا المكان الرحب والذي يتنفس فيه الناس الصعداء. وكان برفقتنا “محمد” ذلك الشاب المفتول، وصديق إبراهيم والذي يُدعى “الزعيتري” وهو دركي كذلك. نزلنا نستنشق الهواء النقي من السيارة البيضاء “الفاميليال”. كل واحد منا راح يرسم هاته المنطقة في مخيلته الرمضانية وبأنها منتجع من منتجعات الإكوادور، وقد ضرب إبراهيم على كتفي قائلا:
-“الخطرة الجاية نجيو نترفسو، هذي بلاصة نتاع ترفاس”.
لم يخطر بباله بأننا سنكون نحن والترفاس سواسية وأن هناك من “سيترفسنا” بعد قليل، أخذنا بعض الوقت في هذا المكان حيث كان لغروب الشمس وقع خاص في نفوسنا ولمن عايش تلك العشرية السوداء المليئة بالمخاوف بعدما أصبح القتل مسلسلا يوميا. قررنا أن نعود أدراجنا فركبنا السيارة وقد لامست اللحظات الأخيرة التي تحمل في طياتها الكثير من التعب والجوع والوجل أجسادنا المرهقة. وإذا بالسيارة تأبى أن يشتغل محركها، كان المكان معزولا نوعا ما عن البيوت، فالبيت القريب يبعد حوالي الكيلومتر من مكان توقفنا. حاولنا مرارا وتكرارا إصلاح العطب، لكن لا جدوى من ذلك بعدما تسللت المخاوف في النفوس، لقد حان وقت المغرب وضربت السكينة التي تجتاح ذلك الوقت المُسترق قبل المغرب بقليل ووقت الآذان، توقفت الطريق وهدأت النفوس وركحت الأرجل ولازم كل واحد بيته إلا نحن والغروب والآذان وسيارتنا المعطلة، وقد حدقت الأعين صوب مستنجد ربما ينقذ الموقف لكن لا أحد، أخرج إبراهيم سيجارته بعدما طلب منا قائلا: “كاش وحيدات تمر”. وقد أومأ محمد برأسه نافيا ذلك وهو يقول”يخي سابقة عند الواحد يخي حتى المغرب مايمقربوش كيما الناس”، لقد أشعل إبراهيم سيجارته وهو يقول: ”خصكم غير التحواس يا وجوه الشر”، أما “الزعيتري” فكان كثير الابتسام، بينما نحن على هذه الحال وقد لاح ضوء سيارة ذلك “الحمدِي”، بعدما أوقف سيارته على بعد أمتار وقد أشهر بندقيته في وجوهنا قائلا: “من أنتم؟
لو أن القذافي قال كلمته المشهورة قبل ذلك الحين لقلت أن هذا الرجل له علاقة وطيدة مع القذافي أو أنه مهووس بأقواله وكتابه الأخضر، لنبرته الحادة حين خاطبنا بصخب. وضع إبراهيم يده على خصره تحسبا لأي طارئ قد يحصل وهو يردد “يخي مصيبة يخي”. وقف محمد وسط الطريق وقد عرف هذا الرجل لأنه من عرشه فنادى محمد الرجل الغاضب: أنا محمد بن فلان (وهو أحد أعيان المدينة المعروفين) فهدأ الرجل وتقدم نحونا وهو يعاتب محمد على عدم مجيئه للبيت، فقد كان بيته أقرب البيوت إلينا ومحمد يقول “خرجتلنا خلعة الله لاتربحك”. ساعدنا ذلك الرجل وشغلنا محرك السيارة وعدنا أدراجنا للبيت حيث جمعتنا مائدة مازجت بين الفطور والسحور في أكلاتها المتنوعة، وقد أحاط بنا الفضوليون من الأصدقاء والأقارب ولسان حال كل واحد منهم يروج لتلك المغامرة الجميلة.
اتصلت مؤخرا بإبراهيم وطلبت منه تنظيم خرجة كهذه، فانفجر ضاحكا وهو يقول:
”معليهش فوتلنا رمضان وجيب الزعيتري ومحمد والطاكسي البيضاء ونروحو”.
عذرا يا إبراهيم لم تعد هناك قلوب لها شغف خرجات الزمن الجميل… عذرا… عذرا…
< إعداد: عبد العالي بركات