إلى حدّ ما اتضحت الكثير من معالم الأدب العراقي ومن ثم السوري على نحو يمكن أن نؤشر فيه غلبة السرديات الروائية على سواها من الأجناس الأدبية الأخرى.
وهذان البَلدان هما الأكثر إنتاجا على الصعيد السردي والأكثر استلهاما لمعطيات الحرب وسوء نتائجها الكارثية على البنية الاجتماعية بشكل عام. بينما لم تتضح بعدُ ملامح الأدب اليمني والليبي الجديد بالرغم من أنّ هاتين الدولتين لا تزالان تحت وطأة الحرب ولا يزال الجو الأدبي فيهما غير مهيّأ كما يبدو للإنتاج وتوثيق الحياة فيهما.
في سوريا والعراق جيل جديد من الأدباء ظهر مع الحرب من دون أن يكون لديه رصيد تجربة مسبق سوى أن الحرب أفرزته كناتج طبيعي لنسق غير طبيعي مهيمن على الحياة؛ فالحرب وإفرازاتها ونتائجها قاسية، وبالتالي فالجيل الجديد الذي يعيش مثل هذه التجربة تتشكّل فيه مفردات الحرب ومخلّفاتها الكثيرة بطريقة تكون أكثر تماسّا في تثوير تجربة الكتابة لديه وهو يتلامس مباشرة مع تجربته الحياتية المريرة بطريقة لا تخلو من فتح الجراح وتمرير الألم من خلالها.
سيكون على النقد حرج أمام هذا الانفتاح الشاسع في سرديات الحروب، كونه مطالَبا أولا وأخيرا بالوقوف على الكثير من (جماليات) الكتابة التي استقطبتها الحروب ونوّعتها في تجربة أجيال جديدة تعاني الكثير من المشكلات في التلقي العام والفحص النقدي الخاص، وهذا ما يشغل الكتابة السردية على نحو واضح في سوريا والعراق، حينما تقدمت الكتابة الإبداعية على الكتابة النقدية وتجاوزتها كثيرا. وهذا لا يعني (تفوقا) نهائيا لأدب الحرب على المُعطى النقدي، لكنه في الأقل يشير إلى أن النقد الأدبي لا يزال قاصرا في ملاحقة سيل السرديات الروائية في كلا البلدين.
نحسبُ أن السرديات النسائية في سوريا أخذت تلمّحُ كثيرا إلى وجودها الإبداعي في الرواية لا سيما أصوات الداخل السوري، وهو إسقاط طبيعي لحياة مكتظة بالخنادق والبارود والفقدان والعبث والموت والتسقيط الطائفي المروّع، لكن هذه التجربة تنمو بحذر متوقع تحسبا للظروف العامة، وهو مشكلة واقعية ربما تجاوزتها السرديات النسائية العراقية كثيرا في واقع سياسي لا تعنيه المصائر الروائية في واقعياتها أو رمزياتها وخيالاتها الكثيرة. ومع كل هذا الانتباه لمحاذير مفهومة في المشهد الثقافي السوري فإنّ كثيرا من الكاتبات الجديدات عَبَرْنَ الخطوط الملونة بشجاعة وكتبنَ بضمائر أدبية فنية ناقدة برمزية أو أقنعة أو سرديات مباشِرة، وصولا إلى بعض الحقائق الطبيعية عن مخلّفات الحرب في تعويقها للحياة اليومية حينما شكّلت حواجز مضافة وقطعت الكثير من أواصر الحياة وجسورها.
وكرّست ثيمة الفقد والعوق النفسي والهجرة والرحيل والبحث عن جمال الماضي لمسك الجسور التي كانت تربط الحياة الاجتماعية والتنويع عليها.
الملمح السردي الإبداعي النسائي السوري من الداخل هو الأكثر جاذبية في استقراء وجه الحرب الدموي في شقه الإنساني والاعتباري والنفسي، ينبغي الانتباه إليه نقديا وتلقيا وانتشارا، فهو صور متنوعة من صور الحرب الشرسة التي تدور رحاها على الأرض السورية منذ سنوات، وهو استجلاء حيوي لمعاناة بشرية على مختلف مشاربها وانتماءاتها الدينية والعِرقية والقومية والمذهبية كتبته أقلام نسوية كانت هي الأكثر براعة في رؤية الحرب من الداخل وعلى تلال شاخصة من الألم. بينما تتخلف السرديات النسوية العراقية قليلا أو كثيرا عن الترميز الفني الذي تمارسه شقيقاتها السوريات، وأشرنا إلى هذا عَرضَا من أن الحال السياسية هنا هي ليست هناك وأنّ التشظي السردي العراقي في الكتابات المحمومة والسريعة لا يجعل المقارَبات الممكنة متاحة في سرد آخر يوازيه في المحنة ويتفق معه في الكارثة.
السرديات النسوية السورية علامة جديدة في المشهد الثقافي السوري ينبغي تأصيلها بجدية نقدية فنساء الحرب هنّ نساء الكتابة وهنّ خمائر التجارب المريرة. لهذا فمؤشرات التجديد السردي الذي نطالعه بين فترة وأخرى نصفه سرد نسوي عابر للتوصيف السريع من أنه سرد محكوم بظرفه، لكنه سرد يواكب الحياة ويشير بشجاعة إلى ما آلت الحالُ إليه.
> بدر السالم