يمكن البدء من الآخر كما يقال، وذلك باعتبار أن التوصيفات المتعلقة بالواقع العربي في أمسه وحاضره، وربما في مستقبله القريب على الأقل، تبقى واحدة وكافية فيما يعدد من سلبياتها ومنافاتها للتقدم والتطور، بل وفي الإمعان في معاكسة النمو والإصلاح، علما بأن ما قيل ويقال بصدد مواصفات هذا الواقع، لا يحتاج إلى مزيد.
إذن إلى أين التوجه وما المطلوب؟
-1 ليس التخلف بقدر مقدور على أي مجتمع بشري، بما في ذلك المجتمع العربي وغير العربي، والعمدة في صنع التقدم على الإنسان وعلى مقوماته الأساسية:الفكر، الإرادة والتخطيط، ولا نحتاج لإعطاء أمثلة على ذلك، والتجارب الحية قائمة على دول ومجتمعات لا تملك من الموارد والمواد الخام ما يقارن بما للمنطقة العربية، ومع ذلك استطاعت أن تتجاوز حالات وظروف عجزها وتخلفها، اعتمادا على رأس مالها البشري، وعلى حسن استثماره.
-2 فيما يخص ربط التخلف ومظاهره المتمثلة على الخصوص، في هيمنة مفاهيم السلطة والفئوية المجتمعية، بتمايزاتها وامتيازاتها الفرقية، وفي عمق دلالاتها على الانصهار المجتمعي، وعلى منافاتها المطلقة لمبدإ ومفهوم التعاقد الاجتماعي، مع ربط ذلك بالدين وبالإسلام على الخصوص، أسوق الملاحظات التالية:
-أكرر أن الدين على وجه العموم بما فيه السماوي وغير السماوي، الموحد والمعدد، إنما يمثل في الحياة اليومية الخاصة والعامة، وفق ما يريده منه معتنقه، ولا يمنع من ذلك وجود فئة كهنوتية محددة ومحتكرة للمهام بتراتبية خاصة، كما في المسيحية، أو غير محددة كما هو الأمر في الإسلام، إذ يبقى في النهاية أن المعتنق للدين، وحتى المدعي للاعتناق الديني، هو من يوجه التعاليم نحو أغراضه، بل ويصنع القيم، أو يستصدرها حسب مراده، وبما أن التوجه السائد في التعامل في مجتمعاتنا العربية، هو الوصول إلى السلطة وسلك ما يؤدي إليها، فإن التوجهات السياسية الدينية على العموم، وفي الإسلام على الخصوص، لا تخرج عن هذا النطاق.
(أمثلة تاريخية لذلك من سيرة الدولة والسلطة في الإسلام) وهي كلها مظاهر من الصراع على السلطة باسم الدين، بفهم وتفسير وتأويل لصاحب التوجه بغض النظر عن مكانه ومركزه (حتى من هم بحسن نية وعن إيمان أنه على النهج القيم والطريق السليم، وقد يكون جلهم كذلك، وإن كان منهم من يقر بمنطق السياسة، مثل معاوية بن أبي سفيان “إن لله جنودا من عسل (عند موت الأشتر) لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت.. لأنهم إذا مدوها خليتها وإذا خلوا مددتها، عمرو بن العاص (واقعة التحكيم في دومة الجندل مقابل أبي موسى الأشعري). يمكن أن نستخلص من ذلك مفهوم الإيديولوجية الدينية، أو الدين عندما يصبح إيديولوجيا سياسية، ويمكن أن نستنتج أن سيرة المسلمين أو الإسلام من خلالهم، رسخ لدولة الاستبداد، وهذا صحيح، كما أنه صحيح بالنسبة لغير الإسلام من الأديان، ومن الإيديولوجيات المرتبطة بها.
لكن الخلاصة الأهم تتمثل في أن المسلمين والإسلام من خلالهم، وكذا دولة الإسلام عبر ذلك كله، بما فيه الاستبداد والتقاتل والتناحر وشتى ألوان التآمر، صنعت تقدمها وحضارتها، في زمن قياسي، وهي التي خرجت للتو أو لم تكد، من القبلية الضيقة وقيمها المنغلقة، صنعت ذلك بالتبادل والأخذ والعطاء والتلاؤم والتكيف والتكييف، وهو ما يعني أن الإنسان بإرادته، وبمختلف الدوافع والحوافز الذاتية الفردية والجمعية، يستطيع أن يصنع تقدمه، بالأخذ والاستعارة والإبدال، وما إلى ذلك من التفاعلات الحضارية الإنسانية، على نهج النهوض والتقدم والارتقاء.
وبالتالي إذا كنا اليوم عربا ومسلمين، نجد أنفسنا في الدرك الأسفل من التخلف، فذلك لأننا شئنا ذلك عن وعي أو غير وعي، وفي كل الأحوال نبقى في جهل بأن صانع قيم التقدم هو الفكر والإنسان، وليس الدين المجرد في ذاته، مهما كان ويكون، ولا الإيديولوجيا المجردة في ذاتها، ولا حتى نمط الحكم بما فيه من عدالة واستبداد، إذ مع الاستبداد والتحكم، يمكن تحقيق التقدم على وجه العموم، مهما تكن أوجه القصور والنقصان في بعض الجوانب ومن زوايا رؤية خاصة.
وهنا تتقوى مفارقة شدة القرب من قارة الأنوار والجوار، بالنسبة للمنطقة العربية، مع الاستعصاء على التقدم على غرار ما قامت به دول ومجتمعات، تعتبر الأبعد عن أوربا والأقل في مواردها الطبيعية والبشرية.
-3 في ضرورة التجديد التربوي
لا نفتر نتحدث عن الإصلاح في المنطقة العربية، وما تفتأ الخطط الإصلاحية تثرى دون جدوى، وكأن كل ذلك من عدم إلى عدم في عدم، وإذ نؤكد على أن سبيل أي إصلاح حقيقي هو العلم والتعليم والبحث العلمي، نشير إلى ما يلي:
أ-إشكالية الديموقراطية وارتباطها في الأفهام، بمنظومة الحقوق دون الواجبات (تطبيقات ذلك في العلاقات الأسرية والمدرسية والمجتمعية العامة).
ب- ضرورة الشمولية الإصلاحية، لا القطاعية التجزيئية: بمعنى ارتباط مجالات الإصلاح وتفاعلها، إذ لا يمكن تحقيق النهوض المنشود في قطاع معين، بمعزل عن غيره من القطاعات… ونعني بذلك على سبيل المثال، تطبيق إصلاح تعليمي دون شمول كافية المجتمع بالإصلاح، لا بمجرد محو الأمية الأبجدية إن توفر ذلك، بل بالتثقيف المجتمعي عبر مخطط محكم، يرقى بالأذهان والأفكار والاهتمام إلى مستوى العلمية…
(مفهوم المجتمع العميق: ثقافته وفعلها في الشخصية: الخرافية والأسطورية/ أمثلة حية على ذلك ودلالاته البعيدة والقريبة: الفراغ الفكري أو الامتلاء الخرافي للذهنية التي تسم الذات بالقابلية للاستغواء والانجذاب لأي طارئ أو طارق أو ناعق…).
ليس المقصود تشكيل مجتمع بثقافة علمية، بنسبة مائة في المائة، فتحقيق مطلقية كهذه تبقى مجرد أمنية، وإنما تحقيق ذلك بدلالة كافيةّ، وهنا أعبر عن ضرورة التوجيه نحو ثورة تربوية ناعمة شاملة مجتمعية مدرسية علمية وعلى مستوى البحث، علما لأن المنطقة العربية عرفت العديد من ألوان الثورات الانقلابية، إلا التربوية بلونها الهادئ الناعم المميز.
وبالمناسبة لا توجد مرجعية تربوية بارزة ببصمة نظرية وعلمية خاصة، منذ ابن خلدون إلى اليوم، وما يروج إلى اليوم في المنطقة العربية، لا يشكل في معظمه أكثر من إعادة إنتاج أو استنساخ لإنتاج غربي.
ج- لا وجود لأنموذج تربوي وحيد وعالمي، يصلح لكل مجتمع، والدولة المتقدمة في هذا الشأن مختلفة في نماذجها أشد الاختلاف، مع القاسم المشترك في التربية الحديثة المتجددة وفق مبادئ الذاتية الفردية والجمعية والابتكار والإنتاجية.
4- عود على بدء:
في نهاية الأمر نكرر: ليس التخلف والاعتمادية أو الاتباعية قدرا مقدورا على أي أمة أو دولة أو مجتمع، ومعدل عقدين إلى ثلاثة عقود على الأكثر، يعتبر كافيا لصنع وتحقيق التقدم، والمناط في ذلك على الإصلاح والتجديد التربوي، واعتماد مناهج البحث، بموازاة مع خطط التثقيف المجتمعي العلمي.
*المداخلة التي شارك بها الكاتب في ندوة ” الفكر الديني الحاضن للإرهاب” بموسم أصيلة الثقافي، يوم 18 يوليوز 2018
> بقلم: مبارك ربيع