شكل إعلان دونالد ترامب اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على صحرائه، تزامنا مع تطبيع العلاقات مع إسرائيل صعقة حقيقية لعدد من الأطراف، لخصوم المغرب باعتبار هذا الاعتراف ضربة قاضية لدعاة الانفصال ومن يواليهم ويمد لهم يد العون والدعم، وصعقة لبعض التيارات المغالية في منع التطبيع، واعتباره خيانة وعمالة في كل الأحوال والسياقات.
لم تختلف الأصوات طبعا في اعتبار ما وقع نصرا دبلوماسيا كبيرا يستحق الاحتفاء والاحتفال، لما ستكون له من تداعيات على ملف الصحراء المغربية، لكن في مقابل ذلك خرجت كثير من الأصوات معبرة عن رفضها لمسلسل التطبيع مع إسرائيل، واعتبار ذلك خطيئة دينية وسياسية.
لا زلت أتذكر سنة 1995 والضجة التي أثارها موقف المفتي العام للسعودية يومئذ عبد العزيز بن باز من قضية الصلح مع إسرائيل، لم يكن من المعتاد ولا المألوف أن يعبر واحد من أكبر المراجع الدينية السنية بالعالم الإسلامي عن موقف مساند للتطبيع واتفاقيات السلام.
يتم استدعاء هذه الفتوى اليوم من جديد، مع إعلان الإمارات والبحرين تطبيع علاقاتهما مع إسرائيل، ليعود نفس النقاش الديني القديم إلى الساحة.
لنتحدث بصراحة وواقعية، ما موقع الفتوى اليوم في عالم السياسة المشتبك؟ ومن يتقدم على الآخر؟ هل الفتوى من يؤسس للموقف السياسي أم أنها تابعة له تضفيه الشرعية الدينية بعد أن يهيأ في مطابخ أخرى بعيدة عن دور الإفتاء ومجامع الفقه؟.
ليست هذه إشكالية حديثة برأيي، الجديد هو موقع هذه الآراء الدينية في سياق الدولة القطرية التي تحررت في كثير من سياساتها وقراراتها من سلطة الدين ورجاله، لكنها دوما في حاجة لهذه الشرعية أمام مجتمعات محافظة يشكل الدين جزء أساسيا من هويتها، لا عجب إذن أن تسلك حركات الإسلام السياسي المعارضة نفس الطريق لدعم شرعيتها والطعن في شرعية الأنظمة المناوئة لها، هي لعبة توظيف لا أقل ولا أكثر لنصوص ومفاهيم دينية مرنة قابلة للتأويل والتوجيه يمينا وشمالا.
أطرح سؤالا آخر بكل موضوعية، هل هذه الفتاوى المتداخلة مع ما هو سياسي ودولي وعلاقاتي مواقف أم مبادئ؟ حين أفتى القرضاوي مثلا بتحريم زيارة القدس واعتبر ذلك من التطبيع، وتبعه في ذلك غالب فقهاء العالم الإسلامي، هل كان ذلك مبدأ ثابتا كما صوره الكثير أم موقفا اجتهاديا قابلا للنظر والتغيير؟، علما أن زيارة المسلمين للقدس لم تتوقف في أي وقت حتى وهي ترزح تحت الاحتلال لفترات طويلة، ومع أن مثل هذه الفتوى يرفضها كثير من فلسطينيي القدس أنفسهم، مع معاناتهم اليومية مع سياسات العزل وجدار الفصل والحواجز والمعابر التي تمنع حتى المجاورين للقدس من صلة أرحامهم بها، فضلا عن حرمان هؤلاء المقادسة من ملايين الحجاج الذين بإمكانهم إنعاش الاقتصاد المحلي وترويجه، فهل يقال بعد كل هذا أن تحريم زيارة القدس مبدأ وليس بموقف؟
أعلم جيدا أن التطبيع الكلي يختلف في جوهره وسياقاته عن قضية زيارة القدس، لكنه يبقى أيضا موقفا وليس مبدأ غير قابل للتفاوض، صلاح الدين الأيوبي نفسه وهو أيقونة المسلمين في الصراع حول القدس، اضطر بعد تلقيه للهزيمة أن يبادر لعقد صلح الرملة مع الصليبيين، وأن يتخلى عن ساحل الشام كاملا، وأن يصبح صديقا لريتشارد قلب الأسد، وهو ما مهد لعودة القدس بيد الصليبيين بعد عقدين فقط من الزمن.
لا يمكن إذن التعويل على موقف الدين من القضية، ولا له فيها مبدأ واضح، ولكن بالمقابل لا يمكن حين اتخاذ أي قرار بهذا الشأن عدم مراعاة الفوارق والخصائص المحلية، فلا يمكن مقارنة الوضع بالمغرب بما في دول الخليج، والتي يبدو مستقبلها مجهولا، مع صدور عدد من التقارير التي تتحدث عن قرب نضوب آبار النفط، ومع اشتداد المنافسة بين المشاريع التوسعية في المنطقة، إيران الحالمة باستعادة أمجاد امبراطورية فارس، وتركيا التي تريد استعادة الخلافة العثمانية، وأمريكا التي تريد شرق أوسط على مقاسها ومقاس إسرائيل، ومع تغير خارطة القوة العسكرية بالمنطقة خصوصا بعد تدمير بغداد ودمشق، وعجز الأنظمة بهذه الدول عن حماية نفسها، وقيام سياستها الاقتصادية على الاستهلاك دون إنتاج أو تنافسية، لا يمكن مقارنة كل هذا بدول في منأى عن كل هذه التوازنات الجيو سياسية، ولها تاريخ خاص في التعامل مع هذه القضية.
لا يمكن المزايدة على إدانة الاحتلال وجرائمه، ولا على حقوق الفلسطينيين التاريخية والدينية، فهذه مبادئ لاشك، أما كيفية تدبير أي دولة لعلاقاتها الخارجية مع أي كان، صديقا كان أم عدوا، فلا يكون بالفتاوى الدينية، ولا بأدلجة المواقف السياسية، ولا برفع الشعارات الاستعراضية، وإنما بما تحققه أي عملية من مصالح استراتيجية للشعوب والأنظمة الممثلة لها، وبما تراعيه من خصائص تاريخية وسياقية، والأهم من ذلك كله، أن يكون القرار في ذلك سياديا ومستقلا، ومحققا للمكاسب، وذلك ما كان فعلا بتقديري في قضية الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه، مقابل تطوير العلاقات مع إسرائيل بشكل يختلف تماما عما وقع ببلاد أخرى، وبما يراعي مصالح آلاف اليهود المغاربة والتاريخ المشترك، وبما لا يمس حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والتاريخية، لذلك يحق لنا الاحتفال والاعتزاز، دون أي إحساس بالذنب أو شعور بارتكاب أي خطيئة.
> بقلم: محمد عبد الوهاب رفيقي