قد يمر بنا قطار العمر بمحطات وأماكن لا نشعر بجمالها إلا عندما نبتعد عنها.. وقد يؤثث مشهد حياتنا فنانون فرضوا علينا الاحترام بأدائهم و مشاعره الإنسانية الجميلة. وفي أكثر الأحيان لا نشعر بقيمتهم ومدى تأثيرهم في حياتنا إلا بعد أن يغادروننا ويصبحون مجرد ذكرى فيتركون ذكريات قد تثير فينا الشجن والحزن والفرح والابتسامة أو الألم والحسرة.. ولكن تبقى ذكرياتهم محفورة داخلنا، تذهب بنا إلى العالم جميل نستنشق من خلاله عبق المحبة والحنين إلى الماضي حيث نتذكر فيهم وبهم أجمل اللحظات برونق خاص وغصة بالقلب…
رحلوا عنا الغوالي وتركوا لنا ذكريات نتعايش معها وتنبض الحياة في أعضائنا، وصورهم مازالت ماثلة أمام أعينينا..
هكذا هي الحياة، كما هي الممات، لقاء وفراق، دمعة وابتسامة.. فبالأمس رحل عنا العظماء ممن كنا نحبهم لأنهم تركوا بصمات على دركنا وفهمنا للحياة من علماء وشعراء وأدباء وفنانون فهم شخصيات عامة إلا أنهم أناس عاشوا وتعايشوا معنا ليرحلوا بهدوء دون أن ترحل آثارهم وتأثيراتهم..
الحلقة 12
رائد النقد المسرحي في المغرب الراحل حسن المنيعي
حسن المنيعي، هو كاتب مغربي معاصر متخصص في مجال المسرح والنقد الأدبي، يلقبه العديد من تلامذته وحتى مجايليه ب”أستاذ الأجيال” نظرا لدوره الكبير في التأسيس للدرس المسرحي بالجامعات المغربية.
ولد مدينة مكناس يوم 17 غشت سنة 1941. تابع دراسته العليا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، حيث حصل على الإجازة في الأدب العربي سنة 1961 وعلى شهادة الدروس المعمقة في الأدب المقارن عام 1963. التحق باتحاد كتاب المغرب سنة 1968، التحق بجامعة السوربون وحصل على دكتوراه السلك الثالث سنة 1970، كما أحرز على دكتوراه الدولة سنة 1983 من الجامعة نفسها. يشتغل أستاذا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس (ظهر المهراز). توفي يوم الجمعة 13 نونبر 2020 بمدينة مكناس عن سن يناهز 79 عاما.
لم يكن للدرس المسرحي الجامعي بالمغرب أن ينطلق، ولا للنقد الأكاديمي المسرحي أن يتأسس وينتعش، وأن تظهر كفاءات مسرحية مغربية يشهد لها بالتميز، لولا الأكاديمي المسرحي حسن المنيعي أو “بَا حسن”، كما كان يحلو للكثير من طلبته والمهتمين بالمسرح مناداته.
حسن المنيعي كان أبا عطوفا ومعطاء لكل الأجيال المسرحية منذ ستينيات القرن الماضي إلى غاية 13 من نوفمبر الماضي، تاريخ وفاته، وعاشقا لأبي الفنون، المسرح، الذي أخلص له تدريسا ونقدا وكتابة ومتابعة طوال سنوات حياته، وساهم في تكوين وتأسيس الجيل الأول من النقاد المسرحيين المغاربة.
لم يبخل “بَا حسن” على طلبته، ولا على كل الباحثين بالنصح والتوجيه، فقد كان أستاذا وأبا لكل الأجيال، وكان الكل يشد الرحال إلى مدينة مكناس، حيث يقيم، أو مدينة فاس، حين كان يدرس بجامعة سيدي محمد بن عبد الله “ظهر المهراز”، من أجل الاستفادة منه، والنهل من معين علمه الذي لا ينضب، حيث ستظل كتبه ودراساته الأكاديمية شاهدة على غزارة علمه، وعلى المجهودات الكبيرة التي قدمها من أجل ترسيخ الدرس المسرحي بالمغرب.
عمل المنيعي، خلال مساره، على ترسيخ الكثير من القيم الإنسانية مثل الحرية والعقل والعلم ومحاربة الخرافة، والتي أوجد لها بابا مشرعا هو الممارسة المسرحية والنقد المسرحي المصاحب لها، باعتبارهما أسس التقدم والنهضة وتذوق الحياة والإقبال عليها.
أفضال “أستاذ الأجيال” و”المعلم الأول”، الدكتور حسن المنيعي (1941- 2020)، كثيرة وكبيرة جدا على الحقل المسرحي والثقافي والأدبي بالمغرب والعالم العربي، فإضافة إلى كونه أول من رسخ الدرس المسرحي بالمغرب، والمؤسس الحقيقي لحقل دراسات الفرجة بالمغرب، فهو أول من أرسى الكثير من التقاليد المسرحية، وعمل على توجيه مسارات المسرح الجامعي والمدرسي على السواء، لأنه كان يؤمن بأن تطور المسرح في الجامعة المغربية رهين بتطور المسرح المدرسي.
ولهذا السبب، عمل على تقديم العديد من المقترحات المهمة وعلى رأسها إدماج المسرح في المدرسة الابتدائية، وخلق أقسام نموذجية للمسرح في الثانويات، وخلق شعب للمسرح في الجامعات، وتشجيع النشاط المسرحي في المدرسة والجامعة، وتحديدا عن طريق مهرجانات المسرح الجامعي بالمغرب، والتي لا تكاد تخلو أي جامعة مغربية منها، حتى ولو كان تخصصها اقتصاد وقانون، مثلما هو الشأن مع مهرجان فاس للمسرحي الجامعي، الذي تنظمه منذ سنوات كلية الحقوق هناك، ويشرف عليه الناقد المسرحي المغربي الدكتور سعيد الناجي.
وفي الوقت الذي عمد فيه الكثير من الباحثين إلى مواكبة التقليد والاهتمام بالطابع الفولكلوري التراثي في ستينيات القرن الماضي، شرع حسن المنيعي في ارتياد آفاق التغيير عبر الانفتاح على المسرح والفن التشكيلي والرواية، فانخرط بشكل مبكر في مسيرة النضال ضد التقليد، ومسايرة جبهات التحديث الثقافي والمشاركة في تحرير وإصدار المجلات الرائدة بالمغرب، وتنظيم المهرجانات والتظاهرات الثقافية، والعمل على خلق حركية ثقافية فعالة في المغرب، والتعريف بالمسرح المغربي على الصعيدين العربي والعالمي.
ويعتبر حسن من النقاد القلائل الذين اهتموا بأشكال العرض المسرحي، فبحث في مفاهيم أساسية للعرض، واستقر على مفهوم الفرجة المسرحية، الذي اعتنى به وطوره، في مجمل كتاباته المسرحية، كما نحت الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي أصبحت فيما بعد رائجة في مجال النقد والتنظير المسرحيين من قبيل الأشكال الـ”ماقبل مسرحية”، والارتجال، والدراماتورجيا، والتمسرح، وما بعد الدراما وغيرها.
يشار إلى أن حسن المنيعي، اشتغل أستاذا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد بن عبد الله، كلية الآداب ظهر المهراز بفاس. بدأ بنشر مقالاته وأبحاثه منذ سنة 1963، وواصل عمله بإصدار العديد من الكتب والدراسات من قبيل: “أبحاث في المسرح المغربي” 1974، و”هنا المسرح العربي، هنا بعض تجلياته” 1990، و”المسرح والارتجال” 1992، و”المسرح المغربي، من التأسيس إلى صناعة الفرجة” 1994، و”المسرح والسيميولوجيا” 1995، و”الجسد في المسرح” 1996، و”المسرح مرة أخرى” 1999، و”قراءة في مسارات المسرح المغربي” 2003، و”المسرح الحديث إشراقات وخيارات” 2009، و”حركية الفرجة في المسرح.. الواقع والتطلعات” 2014، و”عن المسرح المغربي: المسار والهوية” 2015.
وإضافة إلى كتاباته المسرحية النقدية، أصدر الدكتور حسن المنيعي مجموعة من الكتب في النقد الأدبي والتشكيل والرواية، كما أصدر مجموعة من الترجمات العربية لمسرحيات عالمية، ولدراسات نقدية مسرحية لكتاب عالميين، حيث ستظل هذه الذخيرة العلمية منارة لكل الطلاب والباحثين في درب المعرفة.