صدرت في طبعة أنيقة، ضمن منشورات “دار القلم العربي”، طبعة ثانية منقحة ومزيدة من مؤلف “الفتان بوحمارة: محكيات من سيرة الروگي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له” للإعلامي والشاعر والصحفي سعيد عاهد.
ضمن صفحاته الـ 288، يضم الكتاب أكثر من أربعين مقالا صحفيا ومقتطفا من إصدارات أوربية تناولت سيرة الجيلالي الزرهوني الذي شق عصا الطاعة ضد المخزن العزيزي أولا ابتداء من 1902، ثم ضد السلطان مولاي عبد الحفيظ الذي أنهى انتفاضته وأسره في قفص قبل الأمر بإعدامه في شتنبر 1909. وتتميز النصوص المترجمة بكونها تعود لصحفيين وكتاب عاصروا بوحمارة، بل منهم من زار معسكره وحاوره، من بينها ثلاثة عشر نصا غير منشور في طبعة الكتاب الأولى التي صدرت سنة 2013. مثلما يتضمن ملاحق من توقيع مؤرخين مغاربة تقدم رؤية مغربية لصعود “الفتان” واندحاره، وكذا ملحقا للصور والرسوم التشخيصية للفاعلين والأحداث.
**********************
ورد في العتبة الذي قدم بها سعيد عاهد مؤلفه: “مع مطلع يوم الخميس 9 شتنبر 1909 الموافق للثالث والعشرين من شهر شعبان من عام 1327، تم إعدام الجيلالي بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني، المشهور في مغرب مطلع القرن العشرين بكنية “بوحمارة”، وبلقب “الروكَي”.
“اضطر يومها السلطان مولاي عبد الحفيظ إلى إصدار أوامره المطاعة بإعدام “الفَتَّان” رميا بالرصاص في مشور بلاطه العامر بفاس، وهي التعليمات التي نفذتها على التو مجموعة من العبيد. لم يكن حينها أمام السلطان خيار آخر غير الأمر باستعمال البنادق، خاصة بعد رفض الأسود التي تم إيداع بوحمارة في قفصها المعروض في ساحة البلاط الشريف، التهام هذا الأخير وإزهاق روحه، مكتفية بمذاق لحم وشحم أحد ذراعيه فقط!
“ولأن بوحمارة كان شخصية ملغزة، تعددت الروايات بالنسبة للطلقات النارية التي خلصت المخزن نهائيا من وجع الرأس الذي سببه له الفتّان طيلة سبع سنوات. هكذا، تقول رواية مغايرة، فالذي كلف بطي صفحة “القائم” نهائيا كان شخصية سامية في دواليب الدولة الحفيظية…
“(…) وسواء صدقت الرواية الأولى أو الثانية، فالمؤكد أن “القائم” ظل حبيس قفص في فاس، وأنه عُرض على الملإ طيلة أيام حتى يتأكد الجميع بأنه ليس مولاي امْحَمد الذي سبق لبوحمارة تقمص شخصيته والمطالبة بالعرش باسمه. بل إن مولاي عبد الحفيظ ـ حسب كل الروايات ـ سيأمر بإحراق الجثة لتستحيل رمادا بعد صب الغاز عليها، حتى يكف شبح صاحبها عن قض مضجعه، وحتى لا يستمر في منازعته حول عرش الإيالة الشريفة، بعد أن خاصم سلفه في الحكم مولاي عبد العزيز هو الآخر.
“وسواء أعدم الجيلالي بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني برصاص بنادق عبيد مولاي عبد الحفيظ أو برصاصة من مسدس القائد مبارك السوسي أياما معدودة قبيل حلول خريف عام 1909، فإنه انتفض – في البدء – ضد مولاي عبد العزيز، وأعلن الثورة ضد المخزن العزيزي في خريف سنة 1902، زاعما عند انطلاق الشرارات الأولى لـ “فتنته” بأنه مولاي امْحمد صنو السلطان، والابن الأكبر للحسن الأول المتوفي في 1894؛ وأن الحاجب القوي باحماد هو من نحاه عن العرش لفائدة أخيه الأصغر، وأن له الأحقية شرعاً في خلافة والده، خاصة بعد تأكده “شخصيا” من “موالاة” مولاي عبد العزيز للكفار والنصارى، ومن إرادته استيراد عاداتهم وطبائعهم وسلوكاتهم وأنساق حكمهم إلى المغرب.
“وبينما كانت جموع المغاربة تتابع أصداء ما يقوم به الروكَي عبر الروايات الشفوية، أو عبر ما يردده “البرَّاحون”، أو ما يتسلل إلى علمهم من مضمون الإرساليات المخزنية حول “فتنة بوحمارة”، اكتشف الرأي العام الأوروبي وجود الرجل، وعلم ببعض أخباره عن طريق الجرائد الإسبانية والبريطانية والألمانية والفرنسية؛ ثم اهتم بالتفاصيل المحيطة بسيرته ومساره ومطالبه بشغف عبر ما نشرته الصحافة والمجلات الأوروبية، رغم ما اكتنف مقالاتها من تضارب وتناقضات، شغف لم يكن يعادله سوى حجم أطماع حكومات القارة العتيقة الرامية إلى احتلال المغرب.
“وردت الإشارات الأولى إلى شق بوحمارة عصا طاعة السلطان مولاي عبد العزيز بقوة الحديد والنار في الصحافة الأوروبية ابتداء من نونبر 1902، لتستمر متابعة مغامراته إعلاميا إلى حين إعدامه، مثلما خصص له العديد من الكتاب الغربيين المعاصرين له، الذين ألفوا كتبا حول المغرب، صفحات أو فصولا كاملة ضمن مؤلفاتهم.
“ويجدر التنبيه إلى أن هذا الكتاب ليس بحثا تاريخيا أكاديميا، بل هو عبارة عن انتقاء وتجميع وترجمة لمقالات وكتابات أجنبية معاصرة لـ “بوحمارة” تحكي عنه من وجهة نظر أصحابها، وتصف لحظات فتنته، مع إضافة إضاءات مغربية حول “الفتّان” وملحق خاص بالصور والرسوم التشخيصية للفاعلين وللأحداث(…)”.
ومن بين ملاحق المؤلف نص رسالة وجهها بوحمارة للقياد والشيوخ والأعيان، ومقتطف للمؤرخ الحسن بن الطيب بن اليماني بوعشرين (في أحوال الوقت وأخبار الثائر الفتان”، وكيف اعتبر أقارب بوحمارة أنه حي رغم إعدامه (عبد الرحمان بن زيدان) وتباين مواقف علماء المغرب حوله…
وكتب د. عياد أبلال في الغلاف الأخير للكتاب: “عمل سعيد عاهد المثقف، والكاتب والمترجم، يستحق أكثر من عناية واهتمام، خاصة في سياق ملء ثقوب تاريخ المغرب الحديث وتليين التوترات التي ما تزال تشكل طابو عند البعض، ومجالا للتوجس والخوف عند البعض الآخر، خاصة إذا ارتبط هذا التاريخ بالمخزن والمخزنة كأطر إيديولوجية لإنتاج المعرفة والسلطة السلطانية، أو كمنظومة ونسق براكسيسي لا ينفصل فيه السياسي عن الثقافي، الاجتماعي والاقتصادي. من هنا فاختيار عاهد لنصوص هذا الكتاب، ودقة واحترافية الترجمة، وترتيب المقالات وفق تصور ذكي، كلها مؤهلات جعلت الكتاب وثيقة تاريخية مهمة على أكثر من صعيد. فشكراً له على ما قدمه للمكتبة التاريخية لبلادنا، في أفق أن تأتي ترجمات أخرى لنفس المرحلة من الإسبانية والألمانية لنعرف طبيعة التداخل والتأثير الدولي على بلادنا على عهد الحماية وما قبلها.”