إذا زحف الليل فوق وجع القمر المصلوب على جدار الوقت، ومرّت على الأفق غربة من تكسرات روح تستمد قوتها من الوهن المغروس في يباس كفّ الغيوم، أرسم على خصر الوقت خارطة معراجي إلى السماء في الهزيع الأخير من الغياب ولا يبقَ غير السكون الرهيب حين ينكسر الصمت فيتلون الصمت العالق في المقل..
على رابية اللهفة قدَّ من لحظةِ حُلم يعاند شبح السأم وددت لو كان لي في ليل عينيك جولات وأنا أعدّ النّجوم ويدي تبحث عن عناقيد الحلم والوقت شتاء شاخت أوردته تتسكع في الزمان عاجزة تعلوها أشباه دماء فتتساقط أوراقا.. لأتبعثر في كل رصيف كأحزان صفراء منسية بزقاق تلهث فيه رياح الصمت بالأزمنة البلهاء، فالحلم بكاء والزمن كمدية جزار أو كرقصة ثعبان يتحين أن أوقظ في دمه السم زعفا فينام الدجى تحت جنح الوجوم، أرسم على جبين مسائي المجهد كوة من الضياء فيحتشد العلقم في الحلق ولم يبق إلا نواح اليمام، وهمس السواقي وأنّاتها، ووقع خطى عابر في الظلام، تمرّ وتخفت أصواتها، على أرصفة الذكرى ليتنهد ذاك المساء وهو يشتم اللهفة من خمر السماء لتأتي كالرعشة في وجه النهر.
جلست أناجي سكون المساء، ومن ذا الذي يومض بريق الوجد بالمقل وأرمق لون الظلام الحزين، وأرسل أغنيتي في الفضاء، وأبكي على كلّ وجد غبين، أصيح إلى همسات اليمام، ألقي بأوجاعي في غياهب الظلام فأسمع في الليل وقع المطر، وأنّات قمريّة في الظلام، تغنّي على البعد بين الشجر، وآهات طاحونة من بعيد، تنوح أرجاء المساء وتشكو الظلال، تمرّ على مسمعي بالنشيد، تصدح خلف التلال، أصيح ولا صوت غير الأنين حين يقتلع الصمت عن القصيدة، وأرنو ولا لون غير الدجى، غيوم وصمت وليل حزين عساه يرد بصيرتي بقميص اللقاء..
أعيد ترتيب شامات حروفي بما يليق بأناملي العطشى وألون ملامحي بدهشة أول لقاء وفي عتمة الشعر أزرع لفرحي ألف نجم وأعتق نبيذ الأمنيات فلا عجب أن أحسّ الشجا ولم يعد خضرته إن ضاجعه القحط .
رأيت الحياة كهذا المساء، ظلام ووحشة جوّ كئيب يطمس المألوف عن بصر الشعر في الهزيع الأخير من الغياب ولا قبر للقمر الفضي الشمس فوق الرخام تشق الوقت وتعاند الزمن وأشلاء الزمن تغطي الضباب المنهك حول الضواحي .
فمن يعتق العمر على الشفاه لتغفر كل هذا الانكسار؟
الروح تقرع وتقرع والضحكات ترتعش إنه إيقاع الوجع يا سادة..
ودُخان أعمى يصعد ويصعد، تطربه ولولات الأسماك الميتة..
صوت الصمت شجي كنفخ الناي على دموع الوقت وليس هناك سوى مطر والليل عواء وأظافر هجر تنهش وجه الغياب إن شاءت اللقاء.. وهل تكفي يد ممدودة من الجحيم لتعيد الملح إلى الماء ونعبر هذا الصراط اللعين؟
أشعل لفافة الحلم أشهق اللقاء وأزفر المسافة ولا موسيقى في الغيم، فالشمس تعاند الزمن والتوليب قُتِل في البحر
فيا أيها العمر المهدور على قارعة الانتظار، هل تكفي لحظات من الجنون كي أجس في نبض الروح أملا لحلم بناصيتك يداعب الضياء، وهم تحت ليل عميق رهيب، طبيعته أبداً باكية، فصمت الدجى وأنين الرياح، وتنهيدة النسم السارية، ودمع الندى في عيون الصباح، أبصرت عند ضفاف الشقاء، جموع الحزانى وركب الجياع، تشردهم صرخات القضاء، وما أرسلوا همسات الوداع، وأصغيت لكن سمعت النشيج، يدوّي صداه على مسمعي، وراء القصور وفوق المروج، فمن يا ترى يتغنّى معي؟
سأحمل قيثارتي في غد، وأبكي على شجن العالم، وأرثي لطالعه الأنكد، وهل تكفي قصيدة واحدة طاعنة في الحزن مسمع الزمن الظالم..
هل تكفي صكوك التمني كي أقايض برد الخريف بندف من ربيع ودفء؟
ربما تستيقظ تلك التي بداخلي وتركل الأحلام الكهولة في جب العدم فيتناثر هذا الغضب في مجرى الدمع ليتساقط بردا والوقت شتاء وسياط اللهفة يأكلني مساء وصباح ليلملم من المقل بقايا الدمع وقد أنكر وجه الحلم حلو الأشياء..
فما أصعب أن تهجع في عتم الليل وحيدا ترعى عينيك حقول البكاء.. لترى ضحكات الزمن مثل زبد البحر ولا موسيقى في الغيم يختبئ في داخلها ضوء كستنائي نام في البئر يغذّي العطر المكثّف في جسد الحلم.
بقلم: هند بومديان