تشير دراسات إلى أن الحديث عن نهاية وشيكة لعصر النفط والغاز، في ظل الضغوط لتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية من أجل مقاومة الاحتباس الحراري، ليس سوى مجرد تقديرات لا تمت للواقع بصلة، لافتة إلى أن النفط والغاز مازالا أساس اقتصادات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وأصدر أنتوني كوردسمان الذي يترأس كرسي أرليه بورك في الشؤون الإستراتيجية بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، تقريرا عن أهمية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإستراتيجية بعنوان “نقاط القوة وحدود ثروة النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتحدي تغير المناخ”.
ويدرس التقرير في أحد جوانبه تقديرات الطلب المستقبلي على النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويوضح أن الاتجاهات الحالية في الاقتصاد العالمي تتطلب زيادة استخدام صادرات النفط والغاز من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حتى 2050 على الأقل، خاصة في آسيا والدول الأقل نموا من خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
توقعات تغير المناخ الحالية تثير أسئلة مهمة حول الاستخدام المستقبلي للوقود الأحفوري الذي يبقى أحد المصادر الرئيسية للدخل التجاري والثروة في المنطقة
وتُظهر توقعات الاستخدام المستقبلي للنفط والغاز والواردات، التي لا تشمل التخفيضات في استخدام الوقود الأحفوري للتعامل مع الانحباس الحراري، تحولا كبيرا في تدفق صادرات النفط والغاز في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة في البلدان النامية كالهند، والزيادات المماثلة في صادرات النفط والغاز بهدف السماح للدول المتقدمة الكبرى مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية بتقليل اعتمادها على الفحم. كما تظهر تحولا نحو زيادة استخدام واردات الغاز الطبيعي للحد من استخدام النفط. وتشير تقديرات هذه التحولات إلى أن هذا يمكن أن يزيد بشكل كبير من إجمالي الطلب الآسيوي على صادرات النفط والغاز حتى 2050.
ويسلط قسم من التحليل الضوء على قضية رئيسية تشكل مستقبل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال الفترة الممتدة من 2023 إلى 2050.
ويوضح أن توقعات تغير المناخ الحالية تثير أسئلة مهمة حول الاستخدام المستقبلي للوقود الأحفوري الذي يبقى أحد المصادر الرئيسية للدخل التجاري والثروة في المنطقة. وتنتشر شكوك كبيرة في جلّ جوانب تقديرات تأثير الاحتباس الحراري وتأثيره على صادرات النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
تأثير مقاومة الاحتباس الحراري
كما تعتمد بعض تقديرات الطلب المستقبلي على النفط والغاز نهج “العمل كالمعتاد” للتنمية الاقتصادية العالمية التي تفترض أن الجهود المبذولة للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري ستظل محدودة نسبيا.
وتتوقع التقديرات أن الدول المستوردة لن تخفض وارداتها من النفط والغاز للوصول إلى مستوى محدود من الطلب على الوقود الأحفوري الذي تدعو إليه السياسات الوطنية والإقليمية الحالية.
وتبرز توقعات هيئات وكالة الطاقة الدولية أن الجهود المبذولة في تقليل آثار الانحباس الحراري حتى 2050 ستتطلب تخفيضات هائلة في الطلب على النفط والغاز.
وقد يكون لهذا تأثير كبير بنفس القدر على الطلب على صادرات النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا واقتصاديات الدول المصدرة الرئيسية ويجبرها على تغيير اقتصاداتها وتنويعها بشكل جذري واستثمار ما يكفي من عائدات صادراتها قبل حدوث مثل هذه التخفيضات لتكون مصدر دخل رئيسيا ودائما.
لكن مثل هذا التأثير على صادرات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غير مؤكد.
وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن تخفّض الدول المتقدمة، مثل الولايات المتحدة وأعضاء الاتحاد الأوروبي، استخدام الوقود الأحفوري بفضل قدرتها الفائقة على الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة وأنواع الوقود البديلة الأخرى واستخدام الطاقة بشكل أكثر كفاءة في تطوير اقتصاداتها. وبناء على ذلك، يظهر أن تخفيض صادرات النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا محدود بسبب استمرار الطلب من الدول الآسيوية الأقل تقدما والدول النامية الأخرى.
وقد تكون مجموعة أخرى من التغييرات الرئيسية في الدور والأهمية الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مدفوعة بالمواجهات الإستراتيجية المتزايدة بين القوى الكبرى. وتعدّ الحرب في أوكرانيا من الأمثلة على ذلك. وكان لها تأثير كبير على صادرات النفط والغاز الروسية بما يمكن أن يؤدي إلى تحولات جذرية طويلة الأمد في طبيعة الواردات الأوروبية والصادرات الروسية من النفط والغاز التي تؤثر على صادرات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما قد يسبب ذلك تخفيضات أوروبية دائمة في الاعتماد على الصادرات القادمة من موسكو وتحويل روسيا صادرات غازها إلى الصين أو إلى دول جديدة مثل تركيا.
وفي الآن نفسه تبقى الحكومات في حالة تنافس على تحقيق الاحتياجات عبر الإنفاق الحكومي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الأخرى (وفي دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين) بما يمكن أن يضع قيودا كبيرة على مثل هذه الاستثمارات في إمدادات الطاقة الجديدة والمرافق المرتبطة بإنتاجها.
تأثير الصين
تعتبر المنافسة الإستراتيجية (أو المواجهة) بين الصين والولايات المتحدة وشركائها الإستراتيجيين الرئيسيين مجالا رئيسيا آخر قد يؤدي إلى التنافس على النفوذ الإستراتيجي للسيطرة على صادرات النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد يسهم ذلك في إثارة مواجهات جدية بين الصين والدول الأخرى تؤثر على تدفق صادرات الطاقة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتدفق الصادرات عبر المحيطين الهندي والهادئ. كما قد يؤدي ذلك إلى زيادة الطلب الصيني على صادرات النفط والغاز الروسية كبديل للاعتماد على طرق الشحن الهشة عبر المحيط الهندي ومضيق ملقا والمحيط الهادئ، بالإضافة إلى منافسة أكثر شدة بين الصين والقوى المتنافسة على التأثير على الدول المصدرة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومبيعات الأسلحة في المنطقة، والعلاقات الأمنية وإرساء قواعد عسكرية.
وفي الآن نفسه تتجاهل تقديرات أخرى تأثير تغير المناخ أو تظهر أن السياسات الوطنية الحالية الصينية لا ترقى إلى العتبة اللازمة لوقف الاحتباس الحراري. ولا تزال التوقعات الأخرى تتجاهل تأثير تغير المناخ وتركز على التنمية الاقتصادية بطرق تشير إلى حدوث زيادات حادة في صادرات النفط والغاز إلى الأجزاء الرئيسية من العالم النامي. كما تتأثر هذه التوقعات أيضا بأوجه عدم اليقين الرئيسية في وتيرة تغير المناخ وتأثيره.
أي دور للولايات المتحدة
يشكك كوردسمان في التوقعات التي تفيد بتراجع اعتماد الولايات المتحدة على تدفق النفط والغاز من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويعتمد الاقتصاد الأميركي على أسعار النفط والغاز العالمية، حيث تسعر الولايات المتحدة الوقود الخاص بها على المستويات العالمية أثناء أزمات الطاقة الطارئة. والأهم من ذلك أن الاقتصاد الأميركي يعتمد على استيراد السلع المصنعة من الدول المستوردة للنفط والغاز في أوروبا وآسيا. وتُظهر البيانات الحالية حول الميزان التجاري العام للولايات المتحدة أن الاعتماد الأميركي الكلي على جميع أنواع النفط والواردات يجعل البلاد تعتمد الآن بشكل غير مباشر على تدفق صادرات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى شركاء الولايات المتحدة التجاريين، على عكس ما كان في الماضي حيث كانت تعتمد على واردات النفط والغاز المباشرة إلى الولايات المتحدة.
ومع ذلك، يمكن أن يتغير هذا الوضع جذريا إذا ضخّت الولايات المتحدة استثمارا ضخما في أنواع الوقود البديلة، ومصادر أخرى للطاقة، والكفاءة الطاقية، والحفاظ على الموارد المتوفرة لتقليل انبعاثاتها ومدى تأثيرها على ظاهرة الاحتباس الحراري. وسردت وكالة الطاقة الدولية هذه الافتراضات في توقعات الطاقة العالمية لسنة 2022، لكنها غير مؤكدة إلى حد كبير.
وتواجه الولايات المتحدة تحديات سياسية ومشاكل مرتبطة بالتضخم والأزمات الاقتصادية الأخرى، واحتياجات الإنفاق الحكومي التي يمكن أن تتسبب في قيود كبيرة تحد من الاستثمارات.