الرفض الإطلاقي، والاحتجاج الإطلاقي

لايمكن لأحد أن يغفل اليوم الانخراط المتزايد لهيئات وفئات مختلفة من شعبنا في النقاش وفي الاهتمام الواضح بالإصلاحات الدستورية والسياسية، وبغض النظر عن قيمة انخراط هذا الطرف أو ذاك، فإن المسألة تبقى، في كل الأحوال، إيجابية، ومن شأن إنجاح ورش الإصلاحات أن يساعد على الانتقال بها إلى انخراط أكثر وعيا في العملية السياسية، وفي الاهتمام بالشأن العام.
بعد أن تحدث الجميع في السنوات الأخيرة عن العزوف، خصوصا وسط الشباب والنخب، نشاهد اليوم تعدد الندوات والورشات والكتابات والمذكرات حول الإصلاحات وحول مستقبل البلاد، وهذا التحول في حاجة إلى الوعي بأهميته، وأيضا إلى تأمين ديمومته.
ومع ذلك، لابد هنا من الانتباه إلى وضعيتين سلوكيتين، بالرغم مما قد يبدو من تباعد وتناقض بينهما، فهما يلتقيان في المؤدى وفي النتيجة.
الوضعية الأولى تتجسد في رفض كل شيء، والتشكيك في أي شيء، وبالتالي التزام الموقف السهل والمريح، وهو رفع صوت الرفض المطلق، والانسحاب لموقع المتفرج.
أما الوضعية الثانية، فيمكن الإشارة إليها بواسطة سؤال لابد من طرحه اليوم، وهو: هل يجب أن يتواصل الاحتجاج في الشارع إلى ما لا نهاية، وإغماض البصر عن كل ما يتحقق في البلاد وما يقال وما ينجز، وعدم التفاعل ولو بتقديم فكرة أو مقترح أو تحديد أفق لهذا الاحتجاج المفتوح في الشارع؟
إن المآلات التي نتابعها في جوارنا المغاربي والعربي (في تونس وفي مصر مثلا)، تفرض أن يقترن الشارع بالسياسة، وبوضوح الرؤى والأهداف، أما أن تواصل أطراف سياسية ودينية نشر الوهم بكون الشارع وحده سيوصلنا إلى سدرة المنتهى، فهي هنا تريد أن تعمي أبصارنا كلنا، وتحرمنا من عقولنا.
الرفض الإطلاقي، والاحتجاج الإطلاقي أيضا، هما اليوم المرضان الطفوليان (رحم الله القائل) المهددان لتفكيرنا السياسي، وخصوصا عندما يضاف إليهما وهم آخر بات «موضة» لدى بعض قصيري القول والنظر، ويتعلق الأمر بمهاجمة الأحزاب، وتبخيس عملها وتاريخها، ومرة أخرى بشكل إطلاقي أيضا.
اليوم، وفي المستقبل القريب، يجب أن ننتقل بالحماس الشبابي إلى مستوى الفعل الواعي والمنظم، وذلك عبر التسجيل في اللوائح الانتخابية، والانخراط في الأحزاب، وتقوية المشاركة في الانتخابات الجماعية والبرلمانية، ومراقبة نزاهتها ومحاربة أباطرة الفساد الانتخابي، وبالتالي نقل الشعار والسلوك إلى داخل المؤسسات الديمقراطية، أما إذا تركنا احتجاجاتنا تقيم بشكل دائم في الشارع، فإن هناك من يعمل اليوم بذات الحماسة، وربما أكثر، من أجل ابتكار أحدث أساليب الفساد الانتخابي، بغاية السيطرة على الجماعات المحلية ولم لا المؤسسة التشريعية، التي للتذكير هي التي ستقرر في الحكومة المقبلة، وإذا تركنا إذن هذه الأوساط تنجح في «مهمتها»، فسنكون كلنا قد أجرمنا في حق شعبنا وبلادنا، وعدنا لنقطة البداية.

Top