إن مجمل المسافات التي تقيمها الكاميرا مع ما تصوره هي في حد ذاتها صياغة ذهنية للعالم بلغة مغايرة، لغة السينما، وإن كانت النتيجة صوتا وصورا تبدو مباشرة بالمقارنة مع اللغة المكتوبة. رغم أن فعل السينما يتطلب كتابة وتحضيرا طويلا.. لكن جزء كبيرا منه ينفذ ويقرر فيه في اللحظة، في الزمن الحاضر، أي أثناء التصوير. طول فترة الكتابة لا يعني أن تصبح السينما وسيطا ولكن الهدف يكمن في السعي لإنتاج تصور للفيلم، أي تلك الرؤية الإخراجية التي يضمن وجودها وحدة العناصر والانسجام فيما بينها رغم التعدد. وجود بنية حكائية يمكن من جعل مساحة الاختيار والانتقاء ضيقة واستعمال عناصر بعينها وليس أخرى. إن الرؤية الإخراجية لا توجد كمجموعة من الأفكار المسبقة عن العمل في نسخته النهائية كمضمون وكشكل فني ولكن كوجود ينطلق مما هو مادي فيزيائي (المكان، الممثلين والأشياء) إلى مجموع المسافات (سلم اللقطات) التي تقيمها الكاميرا والزوايا التي تحتلها خلال فيلم ما الشيء الذي يخلق للعمل معجمه اللغوي الخاص. اختيار عناصر اللغة المستعملة، أي المسافات التي سنقف عندها أو ستقف عندها الكاميرا والشكل الذي ستتحرك به، يأخذ بعين الاعتبار الموقف الدرامي الذي نتوقف عنده وموازين القوى بين الشخصيات وموقعها في المشهد أي داخل المتتالية السردية، وفي نفس الآن تعبير عن موقف شخصي للمؤلف / المخرج أكان عفويا أم مفكرا فيه كنوايا أو مقصديات وسيرة النوايا
يحاكي التقطيع السينمائي الحكي الروائي ويحدد من البداية زاوية نظر السرد: السارد العالم بكل شيء أو الرؤيا من الداخل أو الرؤيا من الخارج. مثلا ننتقل من لقطة مقربة إلى لقطة عامة لأننا نستعد لفعل لا يمكن أن تستوعبه لقطة مقربة أي حكي من وجهة نظر سارد عارف بكل شيء. إننا هنا في البعد السردي للفيلم، على أنه منطق درامي، تتموقع الكاميرا وفق معادلة ميزان القوى بين الشخصيات وتطور عامل الصراع بينها.
يصبح الفيلم سينمائيا كوجود وليس كوسيط أو تنويع على أشكال تعبيرية أخرى كالرواية والمسرح، عندما يقوم التقطيع التقني بتحديد حجم جزء المكان الذي سيبقى خارج مجال الرؤيا، أي موجود وغير مرئي (hors champ)، هنا يبرز عنصر اللغة السينمائية بامتياز، لأنه ببساطة لا نجد له مقابلا في الأشكال التعبيرية الأخرى. كلما اتسعت مساحة “خارج الحقل” كلما أصبحت اللقطة سينمائية، تحتمل قراءات متعددة وتجعل المتفرج يشغل خياله أكثر. إن التقطيع التقني في نظري يجب أن يعطينا فرصة التأمل، كلما أظهر لنا القليل يصبح هذا التأمل مشوقا أكثر ومنتجا للمعنى الذي يضمن حياة طويلة للعمل في ذاكرة جمهوره. إن التقطيع التقني الذي يقتصر على إيصال الحدث فقط ولا يأخذ بعين الاعتبار تدبير الحقل وخارج الحقل صورة وصوتا ينفي ذاته ويختصر اللغة السينمائية في وظيفة وحيدة: الكاميرا كوسيط.
إن الكاميرا التي تميل نحو الرغبة اليائسة في إظهار كل شيء هي كاميرا بدون شخصية وتتخلى عن دورها كسارد ولا تحكمها أية بنية، السينما التي تظهر كل شيء ولا تحيل إلى خارج الحقل تحقق متعة آنية لا تتخطى عتبة قاعة العرض. إنها تتوخى الإبهار وخلق الدهشة. إننا ونحن نشاهد فيلما من هذا النوع تكون أحاسيسنا مبرمجة بشكل آلي، يأخذنا الفيلم ولكنه لا ينطبع في الذاكرة والوجدان.
بقلم: محمد الشريف الطريبق