على مدى زمني لم يتيسر لي ضبطه بالكرونومتر، ولا بالساعة التي تلتصق برسغي، ولكن كنت أحسه يتدفق مع نبضاتي فأحتسبه بدقات القلب، وبحركات الجسد مني، وهو يكاد ينط من على الكرسي الذي أقتعده، فينقذف مشاركا كل أولئك الذين على متن الخشبة. تلبسني هذا الإحساس وأنا أتابع ــ في حرقة والتياع ممزوجين بعشق وشغف عريقين ــ ما كان يجري على خشبة مسرح دار الثقافة بالداوديات بمراكش، أي ما كانت تقدمه تلك الأجساد الشابة من حركات تعبيرية وما كان يصدر عنها من أصوات غير لغوية، وهي تترافق مع تلك الأنغام الموسيقية المبثوثة، وتتعاضد مع تلك الأنوار المتباينة والإضاءات المسكوبة، لكي تنشئ معاني ودلالات يستطيع الجمهور المتلقي لخطابها البصري أن يفك شفراتها ويعيد تركيب جملها المسبوكة مما هو حركات جسدية وأصوات غير لسانية لإنشاء نصه الخاص وتشييد جماليته المتأسسة على قدراته ومهاراته في التفاعل مع لغات الجسد والإضاءة والملابس والعري غير الكامل…
شرعنا ندخل إلى القاعة، فإذا البعض من الفنانين يستقبلوننا بطبق من التمر وإضاءة تعشي منا العيون، وحين اتخذنا مجالسنا ـ نحن الجمهورـ كانت الخشبة فارغة والستارة مرفوعة. وإذ انطفأت أضواء القاعة بدت مجموعة من الممثلين الشباب تخترق الخشبة تحت أضواء خافتة، فتفتح في الذهن كوة من ضوء البصيرة لترى في حركاتها ما يحيل على مسيرة الإنسانية في مدارج التطور والترقي، منذ مراحل التوحش والعيش في الغاب وحتى مراحل اكتشاف موقع الإنسانية هذه ضمن الكون الفسيح، مرورا بمواجهتها لإشكالية الزمن، فمراحل بحثها عن سبل الاندماج والاندغام مع حركة الكون… وقد اعتمد صانعو هذه الفرجة على الجمع بين جملة عناصر سمعية/بصرية، فإلى جانب الرقص والتعبير الجسدي الذي تم من خلالهما تمرير العديد من الرسائل الفكرية الثقافية بلغة شاعرية غير منطوقة، وباستثمار لبلاغة التمطيط الباذخ، عمد هؤلاء الصناع المسرحيون المبدعون إلى استغلال تقنيات التصوير والعرض بواسطة الفيديو وإدماجها ضمن النسيج الشامل لهذا العرض (بلا سمية أو الناس في المسير BLASMIA ou les gens du chemin).
ولقد تم تقديم هذا العرض الفني في افتتاح الدورة 12 لمهرجان نمشي On marche، وهذا العرض الفني المسرحي هو إنتاج للفرقة المسرحية دها واسا Daha Wassa، وقد جاء بتوقيع المخرج أحمد حمود ومساعده رضا بنعيم، ودراماتورجيا الدكتور عصام اليوسفي، وتشخيص مجموعة من الممثلين الشباب: سيف الدين أيت موسى، رضا بنعيم، دبشا، زينب الناجم، محسن مالزي، ياسين سكال، عبد الرحيم تميمي، وتكفل بصياغة سينوغرافيته نور الدين غنجو بمساعدة من السي صلاح بن عبد السلام، وأنجز له الملابس التي تزيى بها الممثلون مصطفى بن سليمان، وأبدع مسموعاته مايك إتيين.
وهذا العرض الفني المتميز سبق له أن شد الأنظار والمسامع حين تم تقديمه في محطات سابقة، بحيث اعتبره المهتمون بالمسرح المغربي والمنشغلون بدراسته وتعقب اكتشافاته وإنجازاته “باراديغم المسرح المغربي الجديد” كما قال الدكتور خالد أمين، وأنه عرض “…قوي، وبعمق مع كثافة نادرة… إذ هو واحد من الإبداعات الفنية التي ما سلف تحقيقها خلال كل التاريخ الإبداعي المسرحي في المغرب)) كما ذهب إلى ذلك يوسف وهبون، ولقد استدعى هذا العمل الفني من منجزيه عاما كاملا من العمل والجهد الفكري والعضلي، فحققوا به “…جرأة وجدة في المشهد المسرحي المغربي…” حسب أحمد مسعاية، ذلك أن عرض “بلا سمية أو الناس في المسير” كما كتبت مارجوريت بيرتان “يعيد الإنسان إلى أصوله لأجل أن يواجه حاضره بشكل أفضل…”.
بقلم: ذ. محمد بوعابد