قد يمر بنا قطار العمر بمحطات وأماكن لا نشعر بجمالها إلا عندما نبتعد عنها.. وقد يؤثث مشهد حياتنا فنانون فرضوا علينا الاحترام بأدائهم و مشاعره الإنسانية الجميلة. وفي أكثر الأحيان لا نشعر بقيمتهم ومدى تأثيرهم في حياتنا إلا بعد أن يغادروننا ويصبحون مجرد ذكرى فيتركون ذكريات قد تثير فينا الشجن والحزن والفرح والابتسامة أو الألم والحسرة.. ولكن تبقى ذكرياتهم محفورة داخلنا، تذهب بنا إلى العالم جميل نستنشق من خلاله عبق المحبة والحنين إلى الماضي حيث نتذكر فيهم وبهم أجمل اللحظات برونق خاص وغصة بالقلب…
رحلوا عنا الغوالي وتركوا لنا ذكريات نتعايش معها وتنبض الحياة في أعضائنا، وصورهم مازالت ماثلة أمام أعينينا..
هكذا هي الحياة، كما هي الممات، لقاء وفراق، دمعة وابتسامة.. فبالأمس رحل عنا العظماء ممن كنا نحبهم لأنهم تركوا بصمات على دركنا وفهمنا للحياة من علماء وشعراء وأدباء وفنانون فهم شخصيات عامة إلا أنهم أناس عاشوا وتعايشوا معنا ليرحلوا بهدوء دون أن ترحل آثارهم وتأثيراتهم..
الحلقة 14
الممثل الراحل حسن الصقلي
يعتبر حسن الصقلي، المزداد بالدار البيضاء سنة 1931 والمتوفى يوم 28 غشت 2008 بأحد مستشفيات الرباط، من الوجوه الفنية المألوفة التي أثثت فضاءات الفرجة المسرحية والسينمائية والتلفزيونية ببلادنا على امتداد نصف قرن منذ لحظة الاستقلال.
فهو من الممثلين الرواد الذين وضعوا أسس فن التشخيص ولبناته الأولى بالمغرب وأنجزوا الأعمال الدرامية الأولى لفائدة التلفزيون المغربي وناضلوا باستماتة من أجل تحسين الوضع المادي والإعتباري للفنان المغربي، ولا يجادل أحد في القيمة الإبداعية الرفيعة لأداءه كممثل له حضور قوي وملحوظ على خشبات المسارح وأمام كاميرات السينما والتلفزيون.
فهذا الفنان الشامل من الممثلين القلائل ذوي التكوين الثقافي الرصين، كان يتحدث العربية والفرنسية بفصاحة وطلاقة لسان قل نظيرهما في وسطنا الفني، وكان متعدد المواهب إذ بالإضافة إلى كونه لاعبا ماهرا لكرة القدم ظل يكتب الشعر ويرقص باقتدار ويعزف على آلة العود.
شخص حسن الصقلي وألف وأخرج واضطلع بمهام تقنية عديدة في أعمال فنية مختلفة، وساهم في تأسيس المهرجان الدولي للمسرح الجامعي بالدار البيضاء وشارك في عضوية إحدى لجان تحكيمه، زيادة على مشاركته في عضوية لجنة صندوق دعم الإنتاج السينمائي الوطني.
كانت انطلاقته الفنية من المسرح سنة 1956 حيث حصل على شهادة الإستحقاق من مسرح محمد الخامس بالرباط، وبعد ذلك بسنة واحدة ساهم في تأسيس المسرح العمالي رفقة الرائد الطيب الصديقي (1937 – 2016) واضطلع بمهمة الأمين العام لغرفة الممثلين، وهي أول نقابة مغربية فنية دافعت عن حقوق الممثلين والتقنيين المسرحيين. ومن المسرحيات المغربية الأولى التي شارك فيها نذكر “الوارث” و”المفتش”… إلى جانب العديد من الأدوار المستوحاة من نصوص شكسبير وموليير وبريخت وغيرهم من فطاحلة المسرح العالمي.
إن نشاطه المسرحي المكثف هو الذي لفت إليه الأنظار، كما مهدت له حيويته وكفاءته طريق الوقوف أمام كاميرا السينما أولا سنة 1956 في فيلم “إبراهيم” من إخراج الفرنسي جان فليشي (JEAN FLECHET) وإنتاج المركز السينمائي المغربي، وهو الفيلم الذي عرض لأول مرة ومثل المغرب في مهرجان برلين السينمائي الدولي سنة 1957، وبعد ذلك في أفلام “كنز الرجال الزرق” (1960) لإدموند أغابرا (E. AGABRA) و ماركو فيريري (MARCO FERRERI) و”أبناء الشمس” (1961) لجاك سيفراك (JACQUES SEVERAC) و”طرطران دي طاراسكون” (1962) لفرانسيس بلانش (FRANCIS BLANCHE) و”الرسالة” (1976) لمصطفى العقاد وغيرها.
لقد أظهر حسن الصقلي في فيلم “إبراهيم” أو “بداية وأمل” (التسمية العربية)، الذي كتب حواره بالعربية الدارجة كل من إبراهيم السايح (1925 – 2011) وأحمد الطيب لعلج (1928 – 2012) ووضع موسيقاه التصويرية الملحن عبد الرحيم السقاط (1933 – 1985)، تمكنا ملحوظا في تشخيصه لمعاناة شاب مغربي عاطل يحلم بالعثور عن عمل . وقد شارك في تشخيص الأدوار الأخرى ممثلون رواد، كانوا شبابا آنذاك، من بينهم العربي الدغمي والطيب الصديقي وعبد الرزاق حكم وحمادي عمور والبشير لعلج وإبراهيم الوزاني وأحمد الطيب لعلج ومحمد حماد الأزرق وزكي الهواري والإذاعي أحمد الريفي والزجال علي الحداني و لطيفة كمال ، زوجته الأولى الراحلة وأم أبنائه الثلاثة . وفي سنة 1963 قام الصقلي بدور البطولة، إلى جانب الممثلين محمد سعيد عفيفي وخديجة جمال في الفيلم القصير “الرجوع إلى الأصل” (22د) للمخرج الرائد عبد العزيز الرمضاني.
وعندما انطلق رسميا البث التلفزيوني ببلادنا في موسم 1962/1963، شارك حسن الصقلي إلى جانب ثلة من الفنانين المغاربة في تشخيص وإخراج العديد من الأعمال التلفزيونية التي كانت تبث مباشرة آنذاك على الهواء. ولعل أول فيلم تلفزيوني شارك فيه سنة 1963 يحمل عنوان “نعيمة”. غير أن واقع الممارسة السينمائية بمغرب العقود الأولى بعد الإستقلال، لم يسمح للصقلي وغيره من الممثلين المسرحيين الكبار بتفجير طاقاتهم الإبداعية المخزونة وإظهار مواهبهم المتنوعة إلا عبر المشاركة في بعض الأفلام الأجنبية التي صورت ببلادنا من قبيل “الرسالة” (1976) لمصطفى العقاد (1930 – 2005) إضافة إلى الإنتاجات المشتركة “الضوء الأخضر” (1976) و”طارق بن زياد” و”أفغانستان لماذا ؟” من توقيع المخرج المغربي عبد الله المصباحي (1936 – 2016)، مع العلم أن هذين الفيلمين الأخيرين المصورين في الثمانينات لم يريا النور لحد الآن.
كان علينا إذن انتظار عقد التسعينات من القرن الماضي وما بعده، الذي تميز بحركية ملحوظة على مستوى الإنتاج السينمائي الوطني، لنشاهد حسن الصقلي في الأفلام التالية : “ياريت” (1993) لحسن بنجلون و”أوشتام” (1998) لمحمد إسماعيل و”باي باي السويرتي” (1998) لدوود أولاد السيد و”أصدقاء الأمس” (1998) و”محاكمة امرأة” (2000) لحسن بنجلون و”قصة وردة” (2000) لمجيد الرشيش و”جارات أبي موسى” (2003) لمحمد عبد الرحمان التازي و”النظرة” (2005) لنور الدين لخماري و”إنهض يا مغرب” (2006) لنرجس النجار و”فين ماشي يا موشي” (2007) لحسن بنجلون و”عود الورد” (2007) للحسن زينون و”الإسلام يا سلام” (2007) لسعد الشرايبي و”قنديشة” (2008) لجيروم كوهن أوليفر.
إن الأدوار التي شخصها الصقلي في بعض هذه الأفلام وفي المسلسلات : “ذئاب في دائرة” لشكيب بنعمر و”سرب الحمام” لمحمد عاطفي و”صقر قريش” للسوري حاتم علي…، والفيلمين التلفزيونيين : “الحيرة” و”نافح العطسة” لمجيد الرشيش وغيرها لا يمكن للمشاهد نسيانها بسهولة.