ثرثرة الذين يتكلمون بحساب
يكشف عبد المنعم بونو في كل كتاب يُصدره عن خبرة المترجم ورؤية الباحث المتمرس بتذوق النصوص والكشف عن جوهرها النفيس. فبعد “فاس الأندلسية” ومساهمات أخرى ذات علاقة بالثقافات الأخرى، وخصوصا الأمريكولاتينية، يأتي كتابه الجديد، ترجمته لرواية خورخي كارو “المكتبة”، بالاشتراك مع محمد فواس، ومراجعة مصطفى الزباخ وإدريس الفخور للنص العربي، والصادرة منشورات جامعة محمد الخامس، كلية الآداب بالرباط سنة 2019.
الرواية نص طريف للكاتب الأرجنتيني خورخي كارو ، تدور أحداثها بين مئات الكتب الموجودة داخل المكتبة وبين الزبناء ومجموعة من الكتبيين، سرد حواري وتناصي يتحدث عن الكتب في ما بينها حينما تشعر بالملل وهي قابعة داخل الرفوف تنتظر قدوم زبون لاقتنائها، فتقوم بالتعليق عن كل ما يدور حولها ، تنتقد الزبناء والمستخدمين وتدلي برأيها حول مجموعة من المواضيع التي تتطرق إليها كتب غيرها في رفوف أخرى داخل المكتبة. إنه تخييل يصوغه المؤلف المنشغل بسؤال المعرفة وما يحدث بين الكتب حينما تبقى وحدها بعدما ينصرف العاملون وتنغلق عليها الأبواب.
جاءت بداية الرواية حوارا بين الكتب على هذه الشاكلة (ص: 7):
” كيف قضيت ليلتك؟
كما هو الشأن دائما عزيزتي، متألمة ويكاد البرد يُجهز عليّ، هناك مغفّلون يقولون إن النوم فوق الخشب شيء صحّي ؟ اخرسي أيتها المعتوهة واتركيني أستريح لبعض الوقت، قبل أن تبدأ تلك المنظفة المزعجة في تعذيبنا بمنفضة الريش[…].
هل نظرتَ إلى وجه ذاك الذي يجلسُ في الرف الأول؟ تُرى ماذا يسحل بهذا المُهَرّب الشيخ، ما عدا أنه سيُدرك مع مرور الأيام خيانة زوجته له؟
هل صحيح يا سيدي؟
هل تعتقد كونه مجرما لأن زوجته تخونه؟ في الحقيقة سأغير ترتيب التقييم، فأنا على يقين أن هذا الزوج المخدوع هو مهرب.
يا ليت أحدا ما يأتي اليوم ليُخرجني من هنا.. بعيدا عنكم أيها الثرثارون الرعاع”.
تنقسم الرواية – كما ورد في تقديم عبد المنعم بونو- والتي تدور أحداثها في يوم واحد، إلى ثلاثة أقسام: من الصباح إلى الظهيرة، ومن منتصف النهار إلى الليل، ثم من الليل إلى الصباح. وتستعرض ضمن حواراتها مجموعة من الآراء والأفكار والقضايا فتستدعي أدباء من أوربا والأميركيتين ومقتطفات من نصوصهم.
مثلا في الفصل الثاني (ص: 83) يجري الحوار التالي:
[ -أنا وأنتَ نعرف جيدا من الذين يعتقدون أن كتبا كثيرة تبتدئ بعبارة لا تنس للغاية، كالتي تبتدئ بها “مائة عام من العزلة”. اعتادوا النهاية بطريقة صريحة بغيضة، الأمر الذي لا يحصل في “نعيش لنرويها”.
-أمر مؤكد، أعدنا مائة أو مائتي صفحة سابقة، إلى الكاهن كميليو طوريس وإلى تعميده الابن الأكبر لغارسا ماركيث…
-رجوعا إلى البداية أنا متفق معك، غارسيا ماركيث كذاب يقول الحقيقة دائما].
اختار الكاتب كارّو تقنية وصفة المحادثة بين الكتب من جهة وبين الزبناء والمستخدمين بالمكتبة ثانيا، ثم ثالثا تدخل المؤلف لينتقد الحقل الأدبي والنقدي معتبرا النقاد شر لا بد منهم، كما يهاجم الجوائز الأدبية المشكوك فيها ودور النشر التجارية والمعارض وندواتها.
ويُعتبر خورخي كارّو لوبّيز المزداد سنة 1933 ببوينيس ايريس- الأرجنتين كاتبا وناشرا وأستاذا، له مؤلفات في الشعر والسرد والبحث والتربية. اشتغل منذ منتصف القرن الماضي وخلال أربعة عقود في النشر والإدارة والكتابة بالأرجنتين وكولومبيا والشيلي وكواتيمالا وبنما وبورتوريكو وفنزويلا. ومنذ 1980 مارس التعليم في الأدب والفلسفة، مثلما أنشأ مجلة الشعر ببوينس آيريس و شغل منصب عضو أو سكرتير في مجلات أخرى، وكان يكتب أسبوعيا عمودا للرأي والتحليل في كواتيمالا فضلا عن إسهامات كثيرة في هذا المجال بإسبانيا أيضا. له في الشعر 14 عملا نشر أوله سنة 1958. أما في مجال السرد فكان أول مؤلف له سنة 1992، بينما نشر روايته المكتبة سنة 1997 تحت عنوان.El gliptodonte وقد استعار jorge Carro López هذا العنوان من اسم حيوان ثديي عملاق منقرض يرمز اسمه إلى الأسنان المحفورة، وهو يزن حوالي 2 طن (عاش خلال العصر الجليدي في أمريكا الجنوبية، على نطاق يشمل في الوقت الحاضر البرازيل والأرجنتين وبوليفيا.وتشير التقديرات إلى أنه ظهر قبل 30 مليون سنة واختفى منذ حوالي 10000 عام مع وصول البشر إلى قارة أمريكا الجنوبية. ولا تزال حفرياته موجودة في أجزاء من أمريكا الجنوبية).
وتشتهر العاصمة الأرجنتينية بفضاء مشهور يحمل هذا الاسم وتشغله محلات لبيع الكتب القديمة في الفن والمسرح والسينما والفلسفة والتاريخ وعلم النفس والتحليل النفسي والأنثروبولوجيا والرواية والقصص. كما توجد مكتبة ببوينيس آيريس من أشهر المكتبات وتحمل نفس اسم El gliptodonte، مكتبة ذات نافذة صغيرة في مبنى من طابقين لها باب زجاجي، منه يُرى المكان وخزائن الكتب على الرفوف الخشبية الداكنة، وفي الخلف يقبع مكتب بائع الكتب مُضاء بضوء خافت. مكتبة لصاحبها والمشرف عليها الشهير أليخاندرو لوبيز ميدوس، كتبي وكاتب وفنان تشكيلي ومهتم بالسينما. توفي في دجنبر 2017.
كانت له معرفة بكل ركن من أركان المكتبة، فهو من خطط لها ولزخرفها واختار وضع الكتب في أماكنها، فجلّد منها ورمم الشئ الكثير. وقد تم تصوير بعض المشاهد، في هذه المكتبة، من فيلم سينمائي أرجنتيني بعنوان “سمفونية من أجل آنّا” Sinfonía para Ana سنة 2017 عن رواية كابي مايك، وهو يحكي عن سيرة ” آنا المراهقة في أوائل سنوات السبعينيات، من القرن الماضي وكاميليو الغامض، ذو القلب العالق بين شغفَين ، في زمن كانت الدكتاتورية العسكرية تقسو على عالمه بالموت والوحدة والرعب. أما آنا التي كانت في الخامسة عشرة من عمرها فلم يكن أمامها سوى أن تقاتل للحفاظ على حياتها دون التخلي عشقها.
في مقالة شديدة الأهمية للباحثة البورتوريكية nellie bauza echevarria بعنوان ” حوارية النصوص في El gliptodonte لخورخي كارّو ، تشتغل على حضور التناص كما اقترحه جيرار جنيت من خلال نص خورخي كارّو ونص ” El coloquio de los perrosحوار أو ندوة الكلاب” لسيرفانتيس،( وهي قصة تروي حوارا بين كلبين، ثيبيون وبيرجانثا، أثناء قيامهما بحراسة أحد المستشفيات في “بلد الوليد”) ونصه أيضا في الضون كيخوتي،الفصل السادس من القسم الأول حول ” الفحص الطريف والعظيم الذي قام به القسيس والحلاق في مكتبة الضون كيخوتي، وقد استخلصت الباحثة اتشيفاريّا في مقالتها المقارنة والطريفة، أن هذه الرواية جعلتها تفكر بالحداثة وغزو التيكنولوجيا التي أسهمت في تهميش الكتب المطبوعة.
شعيب حليفي