آراء
إشكالية غياب الحريات الفردية في العالم العربي
يعد غياب الحريات الفردية من بين السمات التي تشترك فيها مختلف البلدان العربية تقريبا، وهو أحد عناصر التجانس السياسي بين مختلف رقاع هذا العالم.
ورغم التفاوت بين حالة وأخرى حسب خصوصيات التطور التاريخي وتنوع التركيبة الاجتماعية للسكان، فإن الوضع العام يكاد يختزل اليوم في الانحسار الكبير لهامش الحريات دون مؤشرات واضحة على أفق تطور ما، على عكس ما يحدث في فضاءات أخرى في آسيا وحتى في أفريقيا. كيف نفهم هذه العقدة العربية تجاه الحريات الفردية؟
من الضروري منهجيا التمييز بين بعدي الحرية، أي البعد الجماعي والبعد الفردي، سواء على مستوى الإطار القانوني الذي ينظم هذه الحرية أو على مستوى الفلسفة التي تعطيها شرعيتها الفكرية.
فالحريات الجماعية، مثل حرية الأقليات والأعراق والمجموعات الدينية، تبقى رهينة فاعلية مبدأ حرية الإنسان الفرد. ولكي تكون هذه الحرية الجماعية قاعدة لبناء مجتمع حديث، لا بد لها من أن تكون تواصلا للحرية الفردية ونتيجتها الحتمية.
ذلك أن الحرية الجماعية يمكن أن تؤدي دورا عكسيا وتجعل من الحرية الفردية ضحيتها كما سنرى ذلك لاحقا. لماذا هذا الدور الأساسي لحرية الفرد؟ هل هو تنظير للفرد على حساب المجموعة على الطريقة الليبرالية؟
يعود هذا الخيار أولا إلى صعوبة التأسيس الفكري لمبدأ الحرية في مجتمعاتنا العربية، أي جعله ثقافة متداولة ووعيا مشتركا، وذلك إذا اختزلناه في بعده الجماعي، مثل التحرر من الاستعمار أو المطالبة بحرية أقلية ثقافية مثل الأكراد والبربر، أو الشيعة في العراق زمن صدام حسين.
فالتأكيد على خصوصية الوجود المشترك وعلى ضرورة استقلاليته تجاه طرف مسيطر لا يمكن أن تؤسس لوعي حقيقي بالحرية.
ليس من المؤكد أن تؤول استقلالية بلد ما إلى ترسيخ الحريات الحقيقية، أي حرية الفرد الإنسان، ، بل على عكس ذلك تتم عملية التحول إلى حد الآن وفي جانب كبير منها على حساب الأفراد، مثل حرية المرأة والكتاب والمبدعين، أو على حساب أقليات أخرى.
بهذا المعنى تصبح الحرية الجماعية مجرد صورة وهمية للحرية الحقيقية بما أنها فعليا مجرد إعادة إنتاج لعلاقات الهيمنة السابقة مع استحداث ميزان قوى جديد لا أكثر.
نضيف هنا أنه من الثابت تاريخيا سواء في المجتمعات العربية أو في غيرها، أن هذا البعد الجماعي للحرية يبقى وليد الظرفية الخاصة ومحكوما بطبيعة معاناة هذه المجموعة أو تلك. وهذا ما يعطي الحرية محتوى محددا ومختزلا، إما حرية دينية أو ثقافية وعرقية أو سياسية.
أما العامل الثاني لهذا التركيز على حرية الفرد فمتعلق بخصوصية هذا المبدأ من الناحية الفلسفية والثقافية التاريخية.
فلكي نخرج من الخصوصيات الجماعية التي سبق ذكرها، لا بد من تنزيل الإنسان العربي الفرد في سياق تاريخي حداثي يدمجه ضمن التجربة التاريخية البشرية.
هذه هي الإشكالية الحقيقية لمعضلة الحريات في العالم العربي، أي تلك المتعلقة بغياب الوعي بحرية الإنسان الفرد، وبالوعي بهذا الوجود كقيمة مجتمعية تؤسس للوجود المشترك في سياق علاقات المواطنة لا علاقات الخصوصية السياسية (الاستقلال) أو الخصوصية الدينية والعرقية.
إن الحرية المؤسسة على قيمة الإنسان الفرد وكذلك على مفهوم الفرد المواطن هي السياق الأمثل لطرح مشكلة المرأة وحرية المعتقد وقبل ذلك الحريات السياسية وحرية الفكر.
هذه هي العناصر الحقيقية القادرة على إبراز تنوع المجتمع، ودور الحرية الأساسي هو ضمان هذا التنوع وضبط العلاقة بين عناصره في سياقين متكاملين سياق الفرد الإنسان وسياق الفرد المواطن.
من هذا المنطلق يمكن القول إن إشكالية غياب الحريات في العالم العربي هي في عمقها غياب الوعي بقيمة الفرد كإنسان وكمواطن، وعدم تجلي هذا الوعي كواقع مجتمعي فاعل حتى لدى النخبة المثقفة.
وإن أردنا أن نبحث في أسباب غياب الحريات فعلينا أن نبحث في أسباب غياب مثل هذا الوعي النوعي.
يمكن ربط هذه المعضلة بثلاثة عناصر على الأقل، وهي: طبيعة التركيبة الاجتماعية التي تلعب فيها القرابة والعصبية دورا فاعلا، ثم الدور السلبي للدولة الوطنية التي تشكلت بعد الاستقلال، ثم في الأخير المواجهة مع الآخر الغربي وما نتج عنها من فقدان مطلب الحرية لمصداقيته.
العامل الاجتماعي التاريخي
يتعلق الأمر هنا بطبيعة التركيبة الاجتماعية التي تشكلت عبر التاريخ ولعبت دورا فاعلا في مختلف الحقب.
لقد صار من المألوف لدى اختصاصيي العلوم الاجتماعية القول بالدور الفاعل للهياكل التقليدية في المجتمعات العربية التي تمثلها علاقات القرابة.
وليست هذه نظرة غربية لطبيعة المجتمعات العربية، لأن أول من أنتج القرابة كموضوع معرفي هو ابن خلدون من خلال دراسته لدور العصبية، وهذا المفهوم الخلدوني يساعد كثيرا في فهم التطور التاريخي للمجتمعات العربية وإلى حد ما الواقع الحالي.
لقد توصل ابن خلدون إلى فاعلية دور القرابة من خلال ملاحظته -في سياق بلاد المغرب- للتعارض بين عالم المدينة، فضاء العمران والنفوذ السياسي الذي تنقصه اللحمة، وبين عالم البدو، عالم الحرب المؤسس على قوة العصبية.
ويرى ابن خلدون أن قيام الدول يتوقف على قدرة انتقال المجموعات البدوية من عالم البداوة إلى فضاء المدينة حيث يفتقد النفوذ السياسي المركزي للقوة العسكرية وللحمة العصبية الضامنة لاستمراره.
وباستقرار البداوة في المدينة وتأسيس النفوذ السياسي تدخل الدولة بعد فترة في مرحلة الانحدار بسبب ضعف العصبية التدريجي في فضاء العمران. وبالفعل فإن جانبا كبيرا من تاريخ المجتمعات العربية خلال العصر الوسيط والمعاصر يتناغم مع هذه النظرية ما عدا فترة حكم المماليك الذين أخذوا مكان البدو على رأس القوة العسكرية.
ماذا بقي من نظرية ابن خلدون في الواقع الحالي للمجتمعات العربية؟ يؤكد ابن خلدون في حديثه عن العمران على الوجود المشترك والجماعي في سياق العصبية. وما يزال هذا المبدأ فاعلا اليوم في أغلب رقاع المجتمعات العربية رغم قوة الدولة المركزية الحالية.
نلاحظ هذا بوضوح أكثر في اليمن وفي العراق الحالي وفي بلدان الخليج، وهو واقع متستر في بلدان المغرب.
إن الفاعلية الاجتماعية لمبدأ العصبية تشجع الانتماء الجماعي على أساس خصوصية القرابة والانتماء للجد المؤسس الضامن لوحدة المجموعة.
ومن شأن مثل هذا الوعي الاجتماعي التقليدي أن يتم على حساب الفرد الإنسان وحتى الفرد المواطن، أي أن انتماء الفرد للمجموعة العصبية المحلية يتم عادة على حساب وعي الفرد بذاته خارج الأطر التقليدية، وكذلك على حساب الفرد المواطن وعلى حساب دولة المواطنة.
وفي بعض الأحيان نرى أن هذا “الانتماء العصبي” أكثر فاعلية اجتماعية وبالتالي سياسية من الانتماء الديني. ففي حالة العراق مثلا، لا ينحصر التعارض في حقيقة الأمر بين فريقين دينيين، سنة وشيعة، بل الأصح أن هناك عشائر سنية من ناحية وعشائر شيعية من ناحية أخرى. هذا ما نلاحظه في اليمن كذلك حيث يتشكل الوجود الإباضي في إطار عشائري أكثر منه في إطار طائفي.
نلاحظ كذلك امتدادا لهذا الواقع الاجتماعي التقليدي اليوم من خلال استعمال العنصر البدوي في القوات العسكرية. لقد تم هذا في البداية من طرف النظام الاستعماري، ومثال ذلك تجنيد الآلاف من البدو المغاربة في الجيش الفرنسي.
كما أن الجانب الكبير من الجيش العربي الذي ساند الشريف حسين ولورانس العرب كان من البدو. أما في واقعنا الحالي فعلينا النظر إلى تركيبة أغلب جيوش البلدان العربية لنرى تواصل تقاسم الأدوار بين فضاء البداوة الريفي العسكري وفضاء المدينة السياسي.
فما نلاحظه أن أغلب الجنود وذوي الرتب المتوسطة وحتى بعض الضباط الكبار هم من أصل ريفي بدوي، في حين أن قيادة الأركان ووزارة الدفاع هي عادة لأفراد من ذوي أصول حضرية.
نلاحظ هذا بوضوح أكثر في الحالة الأردنية من خلال الدور الفاعل للبدو في الجيش الذي تعزز سياسيا من خلال أقلمة النموذج الانتخابي مع هذا السند الاجتماعي والسياسي والعسكري للنظام الملكي في مواجهة خطر محتمل في مدينة متنوعة ويغلب عليها العنصر الأردني من أصل فلسطيني.
إن الفاعلية الحالية لهذه الهياكل التقليدية تعيق إلى حد كبير تشكل وعي الأفراد بخصوصية وجودهم وتمايزهم، وتجعل من مفاهيم الحرية والتغيير معطيات مريبة تهدد النظام والتوازن القائم. إنها تخلق وعيا لا يرى التغيير إلا في بعده الكمي (عدد الأفراد ومستوى الثروة) وليس على المستوى النوعي. أضف إلى ذلك أن هذه الأطر تسهل مراقبة الدولة للمجتمع بحكم توظيفها السياسي والأمني.
عبء الاستقلال والانحياز الغربي
لقد انقلب هذا التوازن التاريخي بين البداوة وما توفره من عناصر محاربة ورابطة العصبية، وبين فضاء المدينة أي فضاء العمران والسلطان، مع دخول الدول الغربية المتفوقة ساحة المنافسة على خلفية تفوقها العسكري والاقتصادي منذ نهاية القرن السادس عشر.
لقد خلق هذا الغرب في بعض الأحيان ارتباطا مباشرا مع المجتمعات العربية المحلية وخاصة في الجهات الساحلية، مما أعطاه دورا مهما في التطور التاريخي لهذه المجتمعات وحتى في طبيعة تشكل الوعي بالذات وبالآخر.
برز هذا بشكل أوضح زمن الاستعمار حين تركز الوعي بالذات وبالحرية حول التخلص من نير الاحتلال مما همش دور التعارض الداخلي الذي يشق المجتمع العربي، وهمش إشكالية البناء المجتمعي على أساس المواطنة لصالح إشكالية بناء الدولة على أساس الوطن.
لقد رسخ هذا السياق مفهوم الوطن على حساب المواطن كما رسخ الاستقلال على حساب الحرية. وهذا ما جعل مطلب الحرية الحقيقية (التعبير، التفكير..) بمثابة تهديد لهذا الكيان الجماعي المستقل وتهديد للوطن، وهذا هو أصل عقلية التخوين التي يوصم بها في كل الدول العربية مناضلو حقوق الإنسان والحريات.
بهذا المعنى تعد دولة الاستقلال نتاجا طبيعيا لظرف الاستعمار، وهي بذلك غير مؤهلة لترسيخ مفهوم الحقوق والمواطنة والحرية.
في حالات محدودة قامت الدولة المستقلة بمبادرات تجاه المجتمع لفتح هامش ما من الحريات السياسية، لكن هذا الانفتاح كان يتم عادة في شكل رعاية أبوية تستعيد علاقات النظام القرابي التقليدي أكثر منه مسعى حقيقيا لترسيخ مفهوم المواطنة.
وتفسر هذه المعطيات بعض الحالات مثل لبنان والعراق حيث يتسم النسيج الاجتماعي بقوة العلاقة بين الأفراد على أساس القرابة أمام هشاشة النسيج الذي كان من واجب الدولة إيجاده على أساس المواطنة. وأمام الخوف من خطر الفوضى العامة يتجه المجتمع بشكل تلقائي إلى نماذج التضامن التقليدي مثل العشيرة.
بقي أن نشير إلى أن استمرارية هذه الهياكل التقليدية يعود أساسا إلى هشاشة الدولة العربية وعدم فاعليتها الاجتماعية خارج السياق الأمني. وقد بدا هذا واضحا في حالة العراق حيث انهار بناء الدولة والمجتمع بمجرد زوال رموز الحكم.
بالإضافة إلى كل ما تقدم، يجب أن لا ننسى أن طرح إشكالية الحريات يتم اليوم في العالم العربي في ظل الصورة السلبية التي أعطاها الغرب عن نفسه من خلال نفاقه السياسي والثقافي ومساندته اللامشروطة لأنظمة ودول تتعارض ممارساتها مع أبسط حقوق الإنسان ومع الحريات.
من الواضح إذن أن مسألة غياب الحريات في العالم العربي ليست مرتبطة فقط بالأنظمة التسلطية القائمة، بل هي في عمقها مسألة وعي بالذات تشكلت عناصره عبر التاريخ الاجتماعي، وما زال يتفاعل سلبيا مع الظرف السياسي الحالي.
عادل لطيفي كاتب تونسي
****
الحريات الفردية أولا .. أما الباقي فمجرد تفاصيل
،
يبدو أننا في معظم مجتمعاتنا الإسلامية اليوم، لا نزال نتغاضى عن طَرق الباب الذي من دون طرقه لن ننجح في الانتقال من العالم القديم إلى العالم الجديد، علما وأن هذا الانتقال بات ضرورة أَمنية قبل أن يكون حاجة تنمويّة. بل هو ضرورة أمنية لنا وللعالم أجمع من حولنا. لذلك، رغم مظاهر العمران ومعدلات النمو المرتفعة لدى بعض المجتمعات الإسلامية، ممّا لا يمكن إنكاره، إلاّ أن إمكانية تحرير وعي الإنسان المسلم من كهف القدامة، لا تزال مستعصية عن التحقق وبعيدة المنال. هذا ما يجعل المناعة واهنة، وقابلية النكوص واردة، والهشاشة الثقافية كامنة، وتكفي أحيانا حالة انفعالية جارفة حتى ينزع الناس عنهم قمصان المواطنة ليَرْتَدُوا فروات القطيع. بل تبدو الهشاشة في بنية الشخصية العامة أكثر رسوخا عند الأجيال الشابة وفق معاينات نستذكرها من باب التحذير. لكن، ماذا عن الباب الذي هو مقصد القول في ما نبتغي قوله؟
وفي مجمل نقاشاتنا حول قضايا النهضة والتنمية والتقدّم والتمدن، ثمة باب للعبور دأبنا على غض البصر عنه إما جهلا أو تجاهلا، وكان الواجب يقتضي أن نعمل على طرقه بدل الإصرار على تركه. لا يتعلق الأمر بمَعبر سري كما يخال البعض، ولا يتعلق الأمر بنفق تحت الأرض تحرسه قوى شيطانيّة تحاصرنا وتتحكّم في كل مفاصلنا وتفاصيلنا لكي لا نحرز التقدّم المنشود، مما يستوجب النفير للمبارزة والقتال قبل أن نشق طريق الخلاص المبين كما ظنّ البعثيون والجهاديون والخمينيون والشيوعيون القدامى، وكان هذا الظنّ الاحترابي باهظ الكلفة على أوطاننا وعلى الناس أجمعين، لكن، بل يتعلق الأمر بباب رئيس من أبواب التقدم، لا يمنعنا عنه إلاّ ما بأنفسنا من غشاوة وأوهام، ولا يحجبه عنا سوى الجهل المستشري في شراييننا إلى حد الثرثرة، باب قد نرمقه بنظرات خاطفة، قد ندنو من عتبته أحيانا، لكننا سرعان ما نعرض عنه ونولي الأدبار خائبين خائفين متوجّسين. إلى متى؟ هذا الباب هو نفس الباب الذي يحمل نفس الاسم الذي اشتهر به: الحريات الفردية.. تحديدا أو توضيحا، نقصد، الحريات الفردية في مختلف أبعادها الثقافية والفكرية والسياسية والدينية والجنسية إلخ.
غير أن الحرية الفردية تستدعي أن يكون للفرد وجود. إذ يجب أن يكون الفرد موجودا ومُعترَفا بكينونته الحرّة ووجوده المستقل. في حين أن الفرد كان ولا يزال غائبا في ثقافتنا غيبة كبرى. وبالأحرى فإنه مغيّب بفعل تكالب منظومات شمولية تزج به وتقبره عنوة داخل مفاهيم الأمّة والشّعب والجماعة والطبقة والطائفة إلخ، ولا تسمح له بالتعبير عن نفسه خارج هوية عصبية جامعة تلفه وتسيجه. المؤكد أن المسألة من وجهة نظر أنثروبولوجية متعلقة ببقايا غرائز القطيع البدائية، في زمن البراري، حيث تنقضّ السباع على الطرائد وتمزق أنيابها الفرائس المنفردة بعد عزلها عن القطيع. لقد كان العيش في البراري يجعل الالتحام بالقطيع ضرورة وجودية مرتبطة بدافع البقاء لدى كل الكائنات الحية ومن ضمنها الإنسان. وبما أن تاريخ البشرية ليس تاريخ قطائع كما يتصور البعض، وإنما هو تاريخ استيعاب وتجاوز على طريقة كرة الثلج الهيغلية، فمن الطبيعي أن تبقى غريزة القطيع كامنة في الإنسان إلى يومنا هذا. وهي أكثر أداة تستثمرها الأيديولوجيات الشمولية لغاية إلغاء كينونة الفرد والزج به داخل بوتقة الهوية الجماعاتية، ومن ثمة دفعه إلى التصرف على هذا الأساس، سواء تعلق الأمر بالمشاركة في تظاهرة نقابية، أو حضور إحدى خطب الزّعيم، أو مباراة في كرة القدم، أو صلاة جمعة مجيشة، أو قداس مهيج ليوم الأحد، أو تعلق الأمر بالكرنافالات الاحتفالية والتي قد نعتبرها بمثابة تحوير جمالي لغرائز القطيع، تحوير محمود في كل أحواله لكنه مفقود في مجتمعاتنا. ولهذا الفقدان كلفة باهظة.
مسألة أخرى، أحيانا قد يذهب الظن ببعض نخبنا إلى الاعتقاد بأن الحريات الفردية ستضعف الأحزاب والنقابات والمؤسسات، وتضعف الدولة والأمة والملة، بل وتضعف المعارضة بالنسبة إلى المعارضين، والمقاومة بالنسبة إلى المقاومين، والممانعة بالنسبة إلى الممانعين، والإسلام بالنسبة إلى الإسلاميين، والجهاد بالنسبة إلى المجاهدين، ومن ثمة فإنها قد تكون مجرّد دعوى مشبوهة لتقويض كل أشكال الانتماء الجماعي. وهذا ليس مجرّد اعتقاد سطحي فحسب، لكنه أيضا خطأ جسيم في التقدير.
الفرد هو الحلقة المفقودة في كل معارك الانتقال من عالم القدامة إلى عالم الحداثة. لأن الفرد من حيث هو وعي أولا، هو الحامل الأساسي لعملية التفكير (‘أنا أفكر’، ولا معنى لعبارة ‘نحن نفكر’).. والفرد من حيث هو إرادة ثانيا، هو الحامل الأساسي للإرادة الخاصة، والتي هي النواة الأصلية للإرادة العامة.. والفرد من حيث هو ذات ثالثا، هو الحامل الأساسي للعقد الاجتماعي الذي هو أرضية لنشوء الدولة الحديثة.. والفرد من حيث هو مواطن رابعا، هو حامل الصوت الانتخابي، والذي هو العنصر الحاسم ضمن الممارسة الديمقراطية.. والفرد من حيث هو شخص خامسا، هو الحامل الأساسي لحقوق الإنسان، ذلك أن الحقوق متعلقة بكرامة الشخص، ويصدق هذا الاستنتاج على كافة الحقوق، بما فيها الحقوق الاجتماعية أو ذات الطابع الاجتماعي، بل يصدق أيضا على حقوق الأقليات، طالما يبقى الفرد بمثابة الأقلية الجوهرية لجميع الأقليات.
المعضلة لا تقف عند حدود إنكار الحريات الفردية، وإنما تصل إلى درجة إعلان الحرب عليها. بل قد يبلغ الأمر حد اعتبار حرب الجميع على الحياة الخاصة للجميع كما لو أنها حرب مقدّسة، تدخل ضمن مسمّى “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. على أن دعاة تغيير المنكر لا يقصدون في الغالب مكافحة الجريمة أو المخدرات أو السّرقة أو الرّشوة أو التهرّب الضريبي، ولا المطالبة بتفعيل القانون في هذه المجالات، وإنما مقصودهم إعلان الحرب الغوغائية على أفعال شخصية لا تمثل أيّ خطر أو ضرر على أي أحد، من قبيل نوعية اللباس، وطريقة المشي، ووسائل التجميل، وتسريحة الشّعر، ومايوهات السباحة، وطريقة التنزه، والأذواق الموسيقية.
تلك الحرب القذرة على الحريات الشخصية تناقض روح الإسلام وتندرج ضمن بقايا المعتقدات البدائية. وبالفعل، ضمن الخصائص النفسية للعشيرة البدائية، ثمة خوف دائم من انتقام الآلهة من العشيرة كلها بسبب الأفعال الشخصية لفرد واحد أو لبضعة أفراد، في ما يُصطلح عليه اليوم باسم العقاب الجماعي. وهذا ما ترفضه العدالة المعاصرة في كل الأحوال، فضلا عن مخالفة قيم الخطاب القرآني أيضا “كل يعمل على شاكلته” (الإسراء 84) “لكل وجهة هو موليها” (البقرة 148) “ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى” (الأنعام 164) وبأحسن القول نختم المقال.
سعيد ناشيد كاتب مغربي
****
هيمنة المجموعة على الحرية الفردية
الطفل يبدأ منذ نعومة أظافره في تحدي الخطوط الحمراء الموضوعة له، في رد فعل سلوكي غريزي يهدف من خلاله إلى إثبات الذات ومنحها المساحة الطبيعية التي يحتاجها نموها.
منذ وعيت على هذه الدنيا رأيت أن الحرية هي أقصى ما يمكن أن يبلغه الوجود الإنساني: الحرية في أن تكون نفسك، دون أن تقدم تنازلات، أو تستجيب لضغوط، لكن الأمر ليس بهذه السهولة فالقليل القليل من الحرية يمكن أن يدفعك الثمن غاليا مدى الحياة. وهو عكس الادعاء بأننا نعيش في زمن الحريات، وأن الحرية متاحة ومكفولة للجميع.
لماذا نحتاج الحرية، أو لنقل لماذا ننزع إليها باستمرار؟
يبدأ الطفل منذ نعومة أظافره في تحدي الخطوط الحمراء الموضوعة له، في رد فعل سلوكي غريزي يهدف من خلاله إلى إثبات الذات ومنحها المساحة الطبيعية التي يحتاجها نموها. ومع هذا الفضول الفطري لكل ما هو ممنوع والرغبة في اكتشاف المجهول تزداد حاجة الإنسان إلى التحرر، الذي يعني أيضا، الاختلاف، والانطلاق نحو عوالم أخرى ودخول تجارب مختلفة.
لا شك لدي في أن الإنسان يولد حرا، كما قال بذلك أغلب الفلاسفة والشعراء والمفكرين. الحرية بهذا المعنى ليست مكسبا وإنما صفة ثابتة في الكائن البشري، وهي لا تحتاج معركة لانتزاعها، بقدر ما تحتاج مساحة لممارستها. غير أن ما يحدث في الغالب هو أن المجموعة التي تبدأ من الأب والأم وتتوسع إلى المجتمع المصغر ثم المجتمع العالمي ترغب في ترسيخ حقوق الجماعة على حساب حقوق الفرد فتنشأ المعركة.
في بعض المجتمعات الحديثة يختفي الفرد تماما داخل المجموعة ليصبح جزءا من كل، على ضوئه تتحدد هويته وتكتمل، وتصبح حقوقه متصلة ومتفاعلة مع حقوق الآخرين، بحيث يختفي حقه داخل الحق الجماعي، ويتحول إلى هامش ضمن منظومة اجتماعية صلبة لا فكاك منها.
القليلون الذين يحاولون كسر هذا النمط والخروج عن القطيع يتعرضون للنبذ والمحاسبة الصارمة التي تنتهي غالبا باستسلامهم وخضوعهم. فكرة المجموعة كانت ولا تزال موجودة بقوة أيضا في القبائل والعشائر والتكتلات التي تقتل الفرد على حساب الكل المقدس وبالتالي تقتل الحريات.
والحقيقة أن الحرية تكمن في الفردانية، وكلما نزع الإنسان إلى ممارسة فردانيته كلما زادت حاجته إلى مساحة الحرية التي تسمح له بذلك دون محاسبة ودون إخضاع من الآخر. أصطدم في حياتي اليومية ببعض المواقف الصغيرة التي تضعني غالبا في حيرة من أمري. هل نحن حقا في عصر الحريات؟
لست من النوع الذي يحب أن يكسر مع السائد ويخرج عن المألوف لمجرد الانتفاض، وربما يعود ذلك لحاجتي الملحة إلى الانتماء داخل مجموعة مصغرة والالتزام بقوانينها، ولكن لدي، لنقل شيء من الحس النقدي البسيط تجاه سلطة المجموعة التي تحولت إلى نوع من الاستعمار القهري للفرد.
في المدارس مثلا، تشعر في هذا الزمن، أن مهمة المدرسة الأساسية تكمن في “إنتاج” رجل المستقبل ليس بوصفه فردا، وإنما بوصفه جزءا غير مكتمل من مجموعة، أي بخصائص ومواصفات لا تكتمل إلا باجتماع الأطراف وبوجوده ضمن تركيبة جماعية. كالصورة الممزقة على أجزاء، لا تكتمل إلا بالتئام أجزائها.
يبدو لي الأمر أحيانا وكأن المدارس تحولت إلى ماكينات إنتاج مبرمجة بدقة وصرامة من أجل إيجاد نوع بشري معين يستجيب لمواصفات ومتطلبات المستقبل، وهو نموذج متشابه إلى حد كبير، كما أن حرية الانعتاق منه تكاد تكون منعدمة.
قادني إلى هذا التفكير وقوفي على “هيمنة” النظام التعليمي الحديث في العالم الغربي وصرامة مسطرته التي تقيس مواطن المستقبل بالمليمتر مستثنية كل من لا يستجيب لأقل الشروط والامتيازات.
أتساءل والحال هذه عن مستقبل الحريات ومدى قدرتها على كسر هذا النموذج الدقيق المبني بصلابة وتأن. هل يختفي الإنسان بوصفه فردا، في مقابل هيمنة وطغيان المجتمع عليه؟ ربما سيأتي وقت تتحد فيه قوى الفرد وحركات التحرر، النسوية والذكورية على حد السواء لمواجهة هيمنة المجتمع واستعباده. وفي اعتقادي أن هذا الوقت لن يتأخر كثيرا بعد تغول المجموعة وابتلاعها للحريات الفردية، حتى وصل الأمر إلى انتشار نموذج موحد للذوق، وأسلوب موحد للتفكير، ساعدت العولمة والتكنولوجيا الحديثة، كما نعرف على انتشاره بأسرع مما كان متوقعا.
لمياء لمقدم كاتبة تونسية