يسترجع الكوريغرافي اللبناني ألكسندر بوليكيفيتش من خلال عرضه الراقص “عليهم”، الذي يواصل تقديمه في قبو كنيسة ببيروت حتى السادس عشر من دجنبر الجاري، تجربة مشاركته النشطة في التحركات الاحتجاجية، التي شهدها لبنان على مدى أشهر منذ أواخر السنة الماضية، مستعيدا قصة توقيفه على يد الشرطة مطلع العام الجاري.
ويروي مصمم الرقص ذو الأصول الكرواتية بجسمه وبلغة راقصة معاصرة الاعتداء الجسدي، الذي تعرّض له إثر التوقيف. وعلى مدى أربعين دقيقة يرقص بشغف ناقلا الجمهور إلى تجاربه “الأليمة” في الأشهر الماضية، بينها فقدان والده وصولا إلى انفجار مرفأ بيروت، الذي أدّى إلى مصرع أكثر من مئتي شخص والآلاف من الجرحى، علاوة على انهيار كبير في البنى التحتية.
ويتذكّر بوليكيفيتش أنه كان خارج لبنان لدى اندلاع الاحتجاجات وعاد إليه بعد ثلاثة أيام من بدايتها. ويقول “رأيت في الثورة الأمل وإمكان التغيير، وأمضيت ستة أشهر في الشارع”، مشاركا في التحركات.
وعن اختيار “عليهم” عنوانا لعرضه الراقص، قال الفنان البالغ 38 عاما، “أرى فيه فعل مقاومة”. وهو يعتبر أن “الثورة الناجحة تبدأ بالذات، وتكون أيضا على المعتقدات وعلى الرواسب، وعلى الظلم والحكام والموت والبشاعة”.
وفي 17 أكتوبر 2019، شكلت محاولة الحكومة فرض رسم مالي على الاتصالات المجانية عبر التطبيقات المحمولة، الشرارة الأولى لسلسلة تحركات عمّت المناطق اللبنانية على مدى أشهر، وشارك فيها مئات الآلاف من الأشخاص رفضا للطبقة السياسية، التي يتهمونها بالفساد ويحمّلونها مسؤولية تردي الوضع الاقتصادي في البلاد التي تشهد انهيارا ماليا غير مسبوق.
وشارك عدد من الممثلين والمخرجين والمغنّين والموسيقيين وسواهم من الفنانين في الاحتجاجات، وساهموا في تنظيم التحركات وأدلوا بمواقف داعمة لها ومنتقدة للحكام والطبقة السياسية. وندّدت جمعيات غير حكومية بتوقيف عدد منهم لفترات قصيرة خلال التظاهرات.
وقد أوقف بوليكيفيتش في 14 يناير لفترة وجيزة خلال مشاركته بتحركات أمام مصرف لبنان المركزي رفضا للسياسات المالية في البلاد، تخللتها أعمال شغب وتحطيم واجهات وصرّافات آلية في عدد من المصارف.
ويصف الفنان توقيفه بأنه “مصادفة”، موضحا “لم يستطع رجال الأمن توقيف المشاغبين، فقبضوا عليّ. كنت أقف جانبا، فسحبوني من شعري وأوسعني خمسة أو ستة عناصر ضربا”.
تجربة بيروت في عرض صامت
ويتابع “أحدهم ضربني على وجهي، فيما ضربني اثنان على ظهري وآخران على قدميّ، ثم اقتادوني إلى التحقيق إلى أن تم إطلاق سراحي فجر اليوم التالي”.
وبالرقص، دافع بوليكيفيتش عن نفسه. لم يقاوم رجال الأمن، على ما يؤكّد، لكنه اعتمد “ما يسمى الرقص الاتصالي أي الالتصاق بالمعتدي ومحاولة التماشي مع طاقته”. ويضيف “الرقص أنقذني”.
وبالرقص أيضا، يستعيد الفنان هذه التجربة في عرض موزع على أربع لوحات مترابطة.
وفي داخل الخزانة، يدندن في اللوحة الثانية، موسيقى كان يحبها والده المتوفى حديثا، يثور تارة على الموت والفراق ثم يهدأ، وبجسمه يصدر أصواتا تعوّض غياب الموسيقى، ثم يخرج من الخزانة كالطائر، ويدور حولها في اللوحة الثالثة العديد من المرات، وحول نفسه، كالدراويش، بحثا عن خلاص.في الأولى، يخلع الراقص الملابس التي كان يرتديها خلال مشاركته في التظاهرات. وبأنينه وحركاته، يعبّر عن الخوف والألم، سواء بظهره المنحني أو بقدميه المرتجفتين أو بيديه المتقوقعتين، اللتين ما يلبث أن يفتحهما تدريجيا وبتقنية عالية ليبدو مصلوبا، مسترجعا مشهد ضربه وتوقيفه. وشاء أن تكون السينوغرافيا فقيرة، إذ تتوسّط المسرح خزانة خشبية، بدت كأنها زنزانة أو حتى نعش.
وفي اللوحة الرابعة تتحوّل الخزانة منصة للرقص، يعتليها بوليكيفيتش واضعا القناع الذي كان يستخدمه لاتقاء القنابل المسيلة للدموع، يخبط برجليه تعبيرا عن الرفض، مستعيدا بيديه حركات المحتجين في الساحات.
ولم يستخدم الراقص موسيقى ومحسنات بصرية بل فضّل التركيز على مضمون العرض الإنساني وأبعاده. وعن ذلك يقول إنه يقدّم “رقصا بلديا بمقاربة معاصرة”. ويضيف “الحركة شرقية، لكنني أجرّد الرقص الشرقي من كليشيهاته”.
واختار بوليكيفيتش إقامة عرضه في سرداب كنيسة القديس يوسف في بيروت الواقعة في أحد الأحياء، التي دمّر أجزاء كبيرة منها انفجار الرابع من أغسطس في مرفأ بيروت.
ويقع قبو الكنيسة العتيق، في حي تراثي، على أطراف منطقة الأشرفيّة. وخلال العقد الماضي، احتضن الفضاء ذو الجدران الحجرية، حفلات موسيقى كلاسيكية، ومعارض تشكيلية، وسهرات إنشاد وترنيم.
وخلف انفجار مرفأ بيروت، أضرارا بالغة في الشارع، ولا تزال أعمال الترميم مستمرة داخل الكنيسة، ولم تتعاف بيروت بعد من الكارثة، فلا تزال في الأحياء المجاورة، آثار الدمار واضحة.
ويبرر اختياره تقديم العرض بسروال رقص قصير قائلا “في الرابع من غشت دمر انفجار مرفأ بيروت منزلي. لقد خسرت كل شيء، ولم يبق لي سوى جسمي”.
ويقول المسؤول عن الكنيسة الأب غبريال خيرالله اليسوعي “أردت أن تكون الكنيسة فسحة أمل بعد انفجار المرفأ، وجمال الفن مصدر للأمل. نستضيف فنانا يعبّر برقصه عن التعب الذي نعيشه”. ويضيف “الرقص مقدّس ورمزي، فضلا عن أن رقص بوليكيفيتش محتشم”.
وكان بوليكيفيتش الذي هاجرت عائلته الكرواتية إلى لبنان في القرن التاسع عشر، أثبت حضوره كراقص بلدي ذكر بعدما قدّم مجموعة من الأعمال الفردية منها “محاولة أولى” (2009) و”تجوال” (2011) و”إلغاء” (2013) و”بلدي يا واد” (2015).
فنان لبناني يسرد بالرقص تجاربه الأليمة وأوجاع وطنه الجريح
الوسوم