تُعد الاستحقاقات الانتخابية الراهنة فرصة لتحسين المشاركة السياسية للشباب وبناء قدراتهم لتكون أكثر فاعلية، كما يُعد الفضاء العمومي مكانا خصبا وهاما لاحتضان مختلف النقاشات وبث الأفكار والقضايا المتنوعة التي تتعلق بالشباب وتشغل فكر الأفراد والجماعات. ولا شك أن للتعامل مع الفضاء العمومي دورا رئيسا في تغيير الواقع السلبي وتشكيل الوعي لدى الشباب، وذلك بمقصديات أكثر تفاعلية تُبرز دور النُّخب ودور الأحزاب ودور المجتمع المدني في تطوير أساليب التواصل وآليات التفاعل، وصنع القدرة التشاركية بين مختلف المكونات التي يمثل فيها الشباب الركيزة الأساسية لتعزيز النقاش وتحويل الرؤية من مجرد أداة للتلقي إلى شريك فاعل في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. فللفضاء العمومي إسهام واقعي في التأثير في مسار التنمية على شتى المستويات، وكل ما يقتضي إدماج الشباب في إدارة المشاريع وإقامة الشراكات وصنع المبادرات، بما يسهم في التغيرات التي تندرج في مختلف السياقات التي تروم التشاركية والتغيير، في نطاق التفاعل الإيجابي. وبذلك يضحى الفضاء العمومي ميكانيزما وسيطا في الاستحقاقات الانتخابية لبلورة مجموعة من الرؤى وتحقيق مجموعة من الأهداف في مساحات زمنية تقتضي منطق التدخل، وخلق فرص ذات ممارسات سياسية سليمة على مختلف المستويات. ومن هذا المنطلق، فإن الاستحقاقات الانتخابية المقبلة لا بد وأن تتفاعل بشكل قوي مع هذا الفضاء كونه نطاقا واسعا للتبادل الفكري والثقافي، وإذكاء الحوار والنقاش وبث الخطابات؛ وتمرير البرامج والمشاريع المستقبلية، بقدر ما يسهم في نشر الوعي والقيم ومبادئ العدالة والديمقراطية بتأثير قوي في المجتمع، باعتباره حمّالَ أوجُه: فهو فضاء للتبادل الفكري والمعرفي والخطابات المتنوعة، وهو كذلك فضاء يجسد رؤى مختلفة؛ باعتباره فضاء للتغيير بمقصديات نقدية عن طريق تجديد آليات التواصل التي تتعلق بالاستحقاقات الانتخابية وتغيير طرائق الحوار وتمكين فئات عريضة من الشباب من آليات التعبير وتدفق المعلومات بما يخدم الأهداف الوطنية بمعايير استراتيجية ومؤشرات على التقويم السليم والتطلع إلى تحقيق الغايات ذات الأولوية من تقوية القدرات بطرق تجديدية، وتقويم السلوكيات، وخلق مساحات للفرجة الفكرية والثقافية والفنية والتربوية، ودعم المجتمع المدني في الأنشطة المشتركة بعيدا عن الأنشطة الرمزية التي تنطوي على الزيف، وذلك لإغناء هذا الفضاء بمواكبة كل جديد في مختلف التخصصات وفي كل اهتمامات الشباب الذي هو في حاجة ماسة إلى التشارك الفاعل، والاستيعاب القويم لما يجري حوله، والإدراك الصحيح لما تقتضيه المرحلة الانتخابية الآنية من ضرورة الالتزام بالقيم وترسيخ السلوك المدني. فهذا الفضاء يوفر للنخب السياسية كل سبل تمرير الخطابات المتنوعة واحتواء نقاشات الشباب، والاطلاع على كل ما يتعلق باهتماماتهم داخل المجتمع بغرض المعالجة الحصيفة بإضفاء الصبغة العلمية والعملية والثقافية، التي تجعل الشباب والفاعلين في المجتمع المدني في صلب العمليات التقويمية والسلوكية، وفي اهتماماتها الرئيسية، وذلك باعتماد معايير متنوعة، كمعيار الحكامة الجيدة، ومعيار المشاركة لتمكين الشباب من المشاركة الفعلية والعملية في كل العمليات الانتخابية والاجتماعية وغيرها بنوع من التساوي. ومعيار البحث والمقاربات الاجتماعية الموازنة للارتقاء بالشباب إلى الغايات المنشودة. ومعيار الشفافية بوضع خطط عمل انتخابي ينتج من خلالها الفضاء العمومي معلومات على المستوى الاجتماعي والسياسي، وعلى مستوى القيم والسلوكيات في منتهى الدقة والوضوح؛ باعتماد آليات جديدة: كترسيخ وتوطيد قيم المواطنة الصالحة، وتفعيل آليات تحسين الخدمات والرقي بالانتخابات إلى مستوى كبير من التحضر والشفافية والموضوعية.
وبما أن التقدم العلمي قد أنتج تغيرات في مجالات متنوعة، فإن الفضاء العمومي قد استفاد من إمكانيات التواصل، فتجاوز المحدودية وأصبح أداة فاعلة لدعم كل عمليات الشباب بما يتلاءم مع التطورات المعرفية والفكرية والاجتماعية والانتخابية، بارتكاز على عدة عمليات تشجيعية تتوخى تخصيص حصص للشباب ضمن التفاعلات الإيجابية للأحزاب السياسية والتثقيف المدني متعدد الوسائط لتقوية القدرات بما ينعكس إيجابا على نتائج إشراك الشباب في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعلى مناحي قيمية متعددة. وهو رهان في الفضاء العمومي الذي أضحى حتمية واقعية يتطلب التعاملُ معه نوعا من الاجتهاد، باعتباره عنصرا فاعلا في صناعة الفكر والثقافة وترسيخ القيم وتقويم السلوكيات، ومظهرا من مظاهر الحضارة المعاصرة في توصيل كل المستجدات التي تحيط بهذه الأساسيات، بما يُؤهل إلى صناعة جيل متميز تحضرا وسلوكا، وذلك عن طريق توظيف القدرات بأفضل صورة، وتشكيل القدرة على التوصيل باعتماد أساليب جديدة تأخذ بعين الاعتبار الجانب النفسي والعقلي والظروف الاجتماعية وغيرها مما يجب أخذه في الحسبان.
فهناك أدوار يمكن أن تقدمها الأحزاب السياسية في الفضاء العمومي من خلال عمل المجتمع المدني في التأطير وتخليق الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية بما يُقوّم السلوكيات ويسهم في إدماج الشباب في الحياة السياسية. ولا شك أن تنمية القدرات، وتوطيد الممارسات الثقافية، وتوظيف المعرفة بالشكل الصحيح، يُسهم في بناء جسر التواصل الفعال، لتشكيل جيل قادر على تحمّل المسؤولية ومواجهة كل الصعوبات والتحديات والمتغيرات التي تطرأ بين الحين الفين في مختلف المجالات. وفي الآنِ نفسِه، فإن تفعيل دور الأحزاب باستهداف الأنشطة المتنوعة باعتبارها جوهر عمليات التواصل مع الشباب وجوهر ترسيخ السلوك المدني، له آلية هامة لبناء شخصية المجتمع النافع، إذ تُعدُّ الدينامو المحرك للغايات والأهداف التي يجب أن تعنى بإشراك الشباب في العملية السياسية – وإن كان الأمر يبدو صعبا ومعقدا- إلا أنه من خلال الفضاء العمومي يمكن استخدام مجموعة من الأدوات التي تختلف تبعا للغاية المتوخاة لتنويع الممارسة السليمة وتقديم خيارات من شأنها أن تأتي بالنتائج الإيجابية.
كما أن التجديد في الممارسات التأطيرية للأحزاب من خلال الفضاء العمومي بشراكة مع هيئات المجتمع المدني، يسهم في إثراء البرامج وتنويعها، ما يكون له وقع كبير، ودور بارز في مختلف المجالات الحيوية، لأن التفاعل مع التنوع في مختلف المجالات يُنتج مواطنا متوازنا ومندمجا وفاعلا، وذلك وفق نسق تنظيمي وآليات تفعيلية تشمل كل ما يضمن قيم المواطنة، وقيم التسامح، ومختلف القيم الكونية. فهذا التنوع يرسي مفهوم التفتح السليم، والنضج العقلي والوجداني والسلوكي اعتمادا على وضعيات إدماجية تُمكّن من الاستكشاف والممارسة السياسية العملية، وأخذ زمام المبادرة والاختيار. وهو ما يتيح للأفراد والجماعات اكتساب مجموعة من الخبرات والميولات والقيم. في ظل العمل الجماعي والتعاون والتضامن والشعور بروح الانتماء وتحقيق الذات. ويساهم كذلك في تعميق مجال التواصل وإبراز الميولات وتهذيب الذوات، وتـنمية السلوكات وإنتاج العلاقات السليمة بنوع من التآلف الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وفي العلاقات الإنسانية عموما. وهو ما يكون له في المقابل انعكاس إيجابي على الحياة العامة.
< بقلم: د. محمد البندوري