سيرة ذاتية صريحة كأنها كتاب تاريخ أو فلسفة
ومضت صاحبتنا من قرية إلى أخرى تجول السنون باحثة عن معبر إلى بلدها، وإذا بها تسجن سنة أخرى على ضفاف نواحي المدينة حيث لا ارتاحت ولا شعرت أنها على حدود الوطن، وإنما تعاركت لتنعم بقسط من التعليم. وهي كذلك، كانت تسمع عن رجل قد كتب حياته وكأنه عايشها ولم يعشها، لكن صاحبتنا تناست أيامه مع مرور أيامها ولم تتذكر منه شيئا إلا وهي على حافة نهاية الكتاب الأول من مجلد الأيام.
يقبع أمامي كتاب الأيام الأول منذ فترة قصيرة، ويجعلني كلما لمحته أتعجب لأمر النسيان، كيف يكون لنا عدو ونحن لا نتمنى لبعض لحظات حياتنا إلا هو. ما يعجبني أكثر، كما قال طه حسين، هو قدرته على تذكيرنا وتغفيلنا عن لحظات، ربما بدون عنوان أو تاريخ، وربما بدون معالم أو حتى اسم. طه حسين الذي لا يتذكر اليوم الذي بدأت ذاكرته تستقبل الأحداث، يتذكر لنا في هذا الكتاب الأول تفاصيل حياة، لبؤسها، لا نجهلها أبدا، بل نستقر جميعا على أنها مازالت معاشه إلى اليوم على هذه الخريطة العربية.
إننا في العادة لا نتذكر لبداية حياتنا إلا موقفا فريدا، ربما مفرحا وربما حزينا، لكن من غير الطبيعي فعلا أن تبدأ ذاكرتنا في التذكر في يوم لا يختلف عن باقي الأيام إلا بشعلة نور أو نسيم تقل فيها الحركة، كما فعل طه حسين. حتى الإنشاد الذي طبع في ذاكرته والسياج الذي بصم على خياله، اللذان افتتح بهما طه حسين الحكي، لم يكونا بالشيء الجديد عليه، فقد ألفهما كما ألف ظلمة عينيه. ولا حتى التفكير العميق الذي تربع على ذاكرة ذلك اليوم الذي بدأ فيه التذكر، لم يكن ضيفا جديدا على صاحبنا، لكن ربما هي هكذا، لا تستأذن أحدا ولا تصنع لنفسها سببا لكي تبدأ أو تنتهي، ولا تستحي أن تغادر أحدنا ربما أو أن تستأنف العمل..
العنوان:
دائما وأنا أتمعن في العنوان، أنا التي لم تعد تكثرت لإعراب العناوين بعد، أتساءل ما كنت لأضع لهذا الكتاب من عنوان لو أتيحت لي الفرصة، وغالبا ما أجد أجوبة جميلة وأبلغ معنى وأكثر إثارة بالنسبة لي على الأقل، لكن هذا الكتاب لا يحكي إلا عن أيام وأيام، متنوعة وغريبة، مملة مرات ومرحة مرات أخرى، مؤلمة مرات ولا تحمل الصفة مرات، ومرات مليئة بالصغر أو التعالي والفخر.
الكاتب:
لتواضع صاحبنا رغم مقامه الرفيع، أومن أنه لو كان على قيد الحياة وأتيح لنا شرف أن يقرأ لنا هاته السطور لفرح لهذا الاسم، طاها حسين، أكثر من فرحه بلقبه، عميد الأدب العربي.
ولد طه حسين علي بن سلامة بمصر بمحافظة المنيا بالضبط بعزبة الكيلو في 15 من فبراير سنة 1889، وكان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه وخامس أحد عشر من أشقته كما جاء في الكتاب.
التحق بالأزهر ودرس العلوم الدينية واللغوية لأربع سنين طويلة لتخول له هاته الأخيرة الالتحاق بالجامعة المصرية سنة 1908، فحصل على الدكتوراه هناك بعد صراع مع شيوخ الأزهر حيث كانت أطروحته تلك حول ذكرى أبي العلاء.
التحق بعديد من جامعات فرنسا بين مونبلييه وباريس وجال بين عديد من التخصصات فغاص في التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع واللغات القديمة حتى حصل على دكتوراه ثانية في موضوع “الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون” وذلك سنة 1918.
قابل في فرنسا آنسة فرنسية سويسرية تدعى “سوزان بريسو” فأغرم وأحب وتزوج وقابل توأم روحه الذي قال فيها “منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم” ثم أنجب طفلين هما أمينة ومؤنس وقد كانا المتلقي الذي يحكي له الراوي في كتابه الأيام.
عرف بتوجهه الديكارتي في النقد والرواية والشعر والترجمة والتاريخ والفلسفة فتساءل في كثير من الأمر ودعا إلى التساؤل في كثير آخر. أنتج في الشعر والرواية والقصة القصيرة وترجم حياته الأولى إلى سيرة ذاتية في كتاب الأيام، هي التي تعتبر من قلائل السير الذاتية في الأدب العربي التي كتبت بضمير الغائب، حيث أشار إلى نفسه بـ “صاحبنا”.
غير كتاب الأيام، فقد عرف طه حسين بكتابه “في الشعر الجاهلي” الذي سمي فيما بعد “في الأدب الجاهلي” وتلقى على إثره سيلا من النقد بل وتعرض لمحاكمة بسبب إشارته إلى أن أغلب ما ينسب إلى الشعر الجاهلي كتب بعد البعث وأن القرآن الكريم هو أحسن ترجمة للحياة الجاهلية من الشعر الجاهلي في حد ذاته. غير ذلك فقد اشتهر في العالم العربي من المشرق إلى المغرب بروايته “دعاء الكروان” التي يصف من خلالها حياة أنثى يضعفها الفقر…
من أشهر المقولات المنسوبة إلى طه حسين من طرف الكثيرين من معاصريه “أعطوني قلما أحمرا أصحح لكم القرآن”، في إشارة منهم إلى أن طه حسين كان ينكر اتصال القرآن بالوحي الإلهي غير مدركين أنه قد دل على رأيه في قداسة القرآن في كتابه “مرآة الإسلام” حيث عبر أن القرآن في لغته ودلالته إعجاز لم يعرف العرب قبله مثيلا، فتكون بذلك أشهر إشاعة باطلة عن طه حسين.
توفي في 28 من أكتوبر سنة 1973 بين يدي حبيبته، لكنه ترك أثرا عميقا في عقليات العرب بعد أن كان سفيرا ورائدا من رواد التنوير في مصر. بصيرته النافذة كانت قادته للتركيز على ما غفل عنه الكثيرون، لكن وفاته لم تكن نهاية لمشروعه الفكري بل زادت إثارة لشهوة الشباب في التفكير والتفكير النقدي في مصر والعالم العربي أجمع.
الكتاب:
الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية صريحة وعميقة، وقد اخترت هاتين الصفتين بكل حذر، لا لأني أخشى ألا أصيب الوصف، ولكن لأني أبحث في أعماق خاطرتي عما تركته هذه الترجمة داخل نفسي من أثر، فلا أجد إلا الصراحة المطلقة والعمق صفتين لهذا الكتاب.
نحن لا نملك مقياسا للصراحة، لكننا نستطيع أن نميز المرء الذي يقيم السلام مع ماضيه بترجمته إلى وقائع تحمل من الصفات المتنوعة ما تحمل أي حياة لرفاهيتها أو لتعاستها. صعب علينا، نحن عامة الناس، أن نعود، بعد عمر مديد حافل بالازدهار والرفعة والمقام العالي، أدراج الحياة إلى عمر ماض مليء بالعجز. وإن كنا قادرين على عدم التنكر للماضي فإننا لا نفتأ إلا أن نزينه بألوان التفاخر التي تغطي شيئا من البأس.. لكن صاحبنا لم يكن يفعل ذلك، فهو دائما ما كان يترجم مظاهر الرفعة إلى واقع بسيط ربما لا يتربع على عرشه إلا التصنع الذي يطبع ملامح هذا الوطن العربي من المشرق إلى بلاد المغرب.
إن سيرة ذاتية صريحة بالنسبة لي مثلها مثل كتاب تاريخ أو فلسفة، إن كانت توثق لشيء إنما توثق لسيرورة من العقليات التي إما أن الوسط قد تجاوزها كما تجاوز مجموعة من السلوكيات على اختلافها فلم تعد موجودة، وإما أنها لازالت موجودة بكثرة أو بقلة توثق لجمود حضاري خطير كما حدث مع كتاب الأيام.
يحكي صاحبنا في بداية هذا الكتاب عن سن التاسعة الذي بدأ يتذكره، فيتطرق إلى أصله الذي كان بكل تواضع يفوق أصول الجوار. الأب الشيخ الذي يتبع حاشية كبيرة من خارج البلاد لا تزور البلاد إلا وقد حطت عنده، لا يقوى على زيارتهم مرتين في السنة بل كانت مرة واحدة تثقل كاهله وتضطره إلى عمل الشيء الكثير. لكنه كما عبر طه حسين لا يستطيع أن يتفاداها ولا أن يرفضها وذلك من أجل الرفعة التي كان يجدها في نفس أصحاب المدينة من بعدهم. تدفعني هذه الحقيقة إلى طرح السؤال، اليوم، بعد هاته الأجيال الكاملة، بعد طه حسين، ما عسانا مازلنا لم نغير شيئا من هاته العقلية ولم نغير حتى هذا السلوك، لازلنا نتكلف ونرهق أهل الدار ونسرف في المأكل والمشرب والملبس حتى تطلق علينا ألقاب الكرم المتصنع والسخاء والجود، كل ذلك تحت ذريعة حسن الضيافة، في حين لايزال اليتيم جائعا والأرملة تتسول وذوي السبيل في حيرة من أمرهم.
أما أمه الحنون صاحبة الأسرة الكبيرة فأمرها لم يكن بالمختلف، كانت، لرفعتها، سببا في أن تفقد ابنها بصره بكل جهل. وقد أثارتني عبارة في بداية القول عن هذا الموضوع إثارة قاسية، فقد كان يشير إلى أن الدواء الذي اختارته أمه لتضعه مباشرة على عيونه الضعيفة في بداية حياته، يسبب ضررا لا يكاد يبكيه، لولا أنه ما كان يريد أن يشبه أخته في فعل البكاء، قائلا: “وتقطر فيهما سائلا يؤذيه ولا يجدي عليه خيرا، وهو يتألم ولكنه لا يشكو ولا يبكي لأنه كان يكره أن يكون كأخته الصغيرة بكاءً شكاءً”. إن هاته العبارة من أكثر العبارات إثارة بالنسبة لي في كل الكتاب، ليس لسبب غير أنها تترجم عقلية ذكورية نعلم جميعا أنها تتربع على عرش العقليات في الوطن العربي، لكن ما يثيرني أكثر هو شعور ذفين أن هذه العقلية لم تتغير حتى بعد قرن من الزمن.
يتحدث لنا طه حسين، في إطار صراحته في السرد، عن معالم أحداث تعلم عندها دروسا في الحياة لا الأزهر ولا جامعات العالم تملك لها مقررا دراسيا أو جامعيا غير التجارب. فمثلا عندما أراد أن يساير نفسه ويأكل اللقمة بيديه الاثنتين فأبكى أمه وأباه وأضحك إخوته قرر ألا يتجرأ على فعل مماثل مادام بصيرا. وكان يلاحظ وهو صبي صغير لا يفهم للدنيا دروسا ولا عبرا أن هاته الدروس تزداد وطأة كلما تقدم في السن، فالدرس السابق لا يضاهي في حدته ووقعه ربعا من وقع الدرس الآتي.
لقد حفظ طه الحسين القرآن في سن التاسعة في الكُتاب مع “سيدنا” فدعاه أهل مدينته بالشيخ، لكنه نسيه فحفظه ونسيه مرة أخرى، فحلف أبوه على سيدنا ألا يعود صاحبنا إلى الكُتاب، وحلف عليه سيدنا ألا يعود إليه، فائتمن طه حسين لأصحابه في الكتاب وتكلم وشتم في ظهر سيدنا. بعد أن عاش في سلام لأسابيع، لم يدم ذلك السلام طويلا، فقد قرر والده أن يعود به إلى الكتاب وقرر سيدنا أن يقبله، ووجد أصحابه وقد حكوا لسيدنا كل شيء عن الشتيمة، فكتب “من الخطل والحمق، الاطمئنان إلى وعيد الرجال”.
ناذرا ما كان شيء ما في ذلك السن يضحكه كثيرا أو يبكيه، لكن النوستالجيا التي نحمل جميعا للماضي لا يمكن أن تنسينا بعضا من معالمه التي تجعلنا نمضي للأمام، معالم الجهل والملل والانصياع والألم والعجز، لكن طه حسين ما عاد يربط الطفولة كاملة بهاته المعالم العصيبة بعد أن تسلل الحزن الحقيقي إلى أسرته، بل أمسى لا يذكر الحزن إلا وذكر موت تلك الصغيرة من إخوته التي ضلت تشكو المرض وتصرخ دون أن تخطر لهم فكرة التطبيب، وأخوه الذي يبلغ سن الثامنة عشر الذي سبب موته بوباء الكوليرا انكسارا للعائلة وبداية حقيقية لانتهاء زمن الفرح.
تشكل حادثة موت شقيق طه حسين بالنسبة له، كما ذكر في الكتاب صدمة حقيقية، فهو الذي ظن أنه ذاق الألم، تراجع عن قراره هذا بعد أن تشعبت في قلبه شجيرات الحزن إلى الأبد، فبكى أخاه وكتب فيه شعرا وصلى من أجله وصام ثلاث سنوات، وحتى عندما جاءه الخبر الذي طالما تمناه بالذهاب إلى الأزهر، حزن لأنه ما كان ليغادر قبر أخيه في الضفة الثانية والذي عهد أن يزوره ويقرأ عليه القرآن بعد أن كانت العائلة كاملة تمقت زائري القبور.
انشطار قلب الأم والأب بعد تكرر الوفيات ترك في داخل طه حسين أثرا عميقا من الحزن، لا لأنه عرف موت الأقارب أخيرا ولكن لأنه رأى أن موائد العافية أصبحت مُرة بفعل البكاء المتكرر لشيخين ولما بكيه هو أيضا من معزة الفقيدين.
تأتي نهاية الكتاب الأول من مجلد الأيام بعد أن جاء صاحبنا الفرج بالتحاقه بأخيه الأزهري بالقاهرة، لحظة لطالما نظر بشوق لها لولا أنه كان يتمنى لو يكون أخوه المتوفي برفقتهم أيضا لدراسة الطب، لكن الأقدار شاءت وهو في سن الثالثة عشر أن يغادر منزله أخيرا وحيدا برفقة أخيه الأزهري ويبدأ رحلة البحث عن العلم ليترفع وليصل مقام أخيه في عيون أهل المدينة، غير مذكر أن العالم العربي، الذي طالما تفكر بعيون بصيرة ولكنها منتقدة في كثير من سلوكياتها وعقلياتها، سيتذكره ويحمل له احتراما وتقديرا وافيين حتى بعد وفاته.
ينتهي الكتاب تاركا كثيرا من معالم التساؤل لدى القراء، فالراوي الذي يوجه الخطاب الآن إلى طفلة صغيرة في عمر الزهور يقفز إلى زمن ويبتعد بأمتار من طفولته ليفكر في زمن قريب بعيد ويترك القارئ في شوق إلى الأحداث والمغامرات التي صادفت صاحبنا عند وبعد الأزهر.
(يتبع…)
بقلم: كوثر الصابري