أوسمان سو (Ousman Sow 1935-2016) هو، بدون منازع، من أميز النحاتين الأفارقة وأكثرهم شهرة وإنتاجاً، وقد عُرِفَ بمنحوتاته الضخمة ذات البنيات العضلية المفتولة، الكثير منها خصِّص للإثنيات الإفريقية والهنود الأمريكيين.. وغيرهم.
نقل النحت وإفريقيا إلى قلب أوروبا، وجلُّ منحوتاته خرجت من رحم محترفه بدكار..إنه فضاء شاسع تعايشت بداخله كل شخوصه وأجساده الضخمة التي تصارع وترقص وتحتفي بالحياة..وأخرى برؤوس وعيون جاحظة ترسل نظرات حادَّة وعميقة في آن..
من التمريض.. إلى النحت
جاء الفنان أوسمان سو إلى عالم النحت من مجال العلاج الطبيعي الذي مارسه أثناء إقامته بفرنسا عقب سنوات من التشرُّد بالعاصمة باريس. فبعد وفاة والده عام 1956، دفعته الظروف المعيشية للهجرة فوق الماء على ظهر سفينة مغامراً بحياته شابّاً حالماً وعمره لا يتجاوز 22 عاماً، وهناك ذاق ضنك العيش والمبيت في ضيافة البوليس، قبل أن يلج مدرسة “بوريس دولتو” Boris Doltoللعلاج الطبيعيkinésithérapie ، ليتخرَّج كأخصائي علاج طبيعي وتكون مهنته الأولى على علاقة وطيدة بالجسد الذي أضحى موضوعاً ومادة لاشتغاله الجمالي.
بفضل ذلك، صار أول مروِّض طبي في بلاده بعد استقلالها، بعد أن عاد ليستقر بالعاصمة دكار، وقد زاول هذه المهنة لسنوات، قبل أن يغزوه هاجس العودة إلى فرنسا، واحترف فن النحت الذي أكسبه شهرة واسعة قبل أن يقرِّر العودة مرة إلى وطنه عام 1978.
وبعد تجربة باريس التي تعرَّف فيها أكثر على فن النحت وفضاءاته وممارسيه من خلال احتكاكه بطلبة مدرسة الفنون الجميلة، إنتظر حتى سن الخمسين ليتفرغ بشكل كامل للفن الذي يعشقه، وهناك انتخب بالإجماع لشغل كرسي بالأكاديمية الفرنسية للفنون الجميلة عام 2013 خلفاً لرسام الأميركي أندرو وايت Andrew Wyeth، وكان أول إفريقي يلج هذه المؤسسة الأكاديمية، حينها قال كلمة بمناسبة تنصيبه: “أنا أنتمي إلى تيار يهتم بأفريقيا، على غرار نظيري ومواطني الكاتب السنغالي ليوبولد سيدا سنغور الذي انتخب في الأكاديمية الفرنسية قبل ثلاثين عاماً. لهذا أهدي هذا التكريم لأفريقيا كاملة ولجاليتها في الشتات”.
هكذا كانت بداية الفنان سو، فبقدر إجادته ومعرفته الطبية بأمور الجسد ومصادر آلامه وأوجاعه، فهو أيضاً مدرك لتضاريس أجساده المنحوتة العملاقة وعارف لكيفيات تشييدها وإنشائها بواسطة مواد وخامات من بيئته ومحيطه الطبيعي. هي، بلا شك، معرفة “جسدانية” Corporelle مزدوجة تتكامل فيها المناحي النفسجسدية والمادية، وذلك على نحو مهني وإبداعي خلاق فيه الكثير من الإخلاص والصدقية..
إنه إهداء رمزي بدلالات عميقة تُبرز اعتزاز الفنان سو ببلده وبالقارة التي أنجبته، لأنه يُدرك جيِّداً الفترات الصعبة عاشتها، حروب وتطاحنات عسكرية وانقسامات عرقية خلفتها القوى الاستعمارية..إفريقيا التي نخرتها العنصرية والتمميز العنصري “الأبارتايد” الظالم. فالفنان سو بهذا الفعل يكون قد أظهر وعيه بدور الفن وأهميته في التعبير عن آلام الشعوب وأوجاعها وجراحاتها..
في البدء كان الحجر..
منذ بواكيره الأولى، ظهرت ميولات أوسمان سو نحو عالم النحت من خلال ولعه بجمع الأحجار الموجودة على شواطئ السنغال وصقلها ومنحها مظهراً جماليّاً كان يُثير فضول أصدقائه وأفراد أسرته، بقدر ما كانت تستهويه الكتل والصخور بألوانها وأحجامها وبنياتها وكان يجد فيها مشروعاً جماليّاً لإشباع غرائزه الإبداعية التي تولدت لديه بشكل مبكر، مستوعباً منذ ذلك الوقت قول فنان عصر النهضة مايكل أنجلو M. Ange: “كل كتلة من الحجر في داخلها تمثال وهذه هي مهمة النحات في اكتشاف ذلك”، وقد وجد في بيئته المحلية التربة الخصبة لتحقيق هذه الرَّغبة، حيث سيتفرَّغ لعجن الأتربة والأقمشة وصبِّ البرونز والنحاس لإنشاء أجسامه العملاقة التي أمست لعبته اليومية ورهانه الكبير الذي أسَّس عليه مشروعه الجمالي. إنه بهذا إنما “يجدِّد هذه البادرة القديمة قدم الإنسانية، ولديه غريزة النحات”، كما قال الناقد جان كاردو J. Cardot..
وشكل عام 1987 أول مناسبة يُظهر فيها سو بعضاً من منحوتاته في معرض فردي احتضنه المركز الثقافي الفرنسي في داكار (المعهد الفرنسي الآن)، تضمَّن باكورة أعماله النحتية، سلسلة عن مصارعي النوبة بهيئاتهم وعضلاتهم البارزة، وقد سادته انتقادات واسعة آنذاك من طرف بعض المحافظين بسبب الأجساد الذكورية العارية التي قدَّمها، لكن المعرض شكل فرصة لاطلاع الجمهور على إبداعاته النحتية التي لقيت استحسان النقاد الأجانب ونالت شهرة واسعة حتى صارت بعد ذلك تُعرض في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة، إلى جانب اختيار منحوتاته الجديدة لتكون في معرض دوكيمونتا Documenta في كاسيل بألمانيا وكذلك في معرض بالازو غراسي Palazzo Grassi بمناسبة الذكرى المئوية لبينالي البندقية عام 1995. وفي عام 2010، حصل متحف الفن الأفريقي في معهد سميثسونيان بواشنطن في مزاد علني على قطعة نحتية أنتجها سو في عام 1989 للاحتفال بالذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية..
بذلك، استطاع الفنان سو نقل تجربته إلى فضاءات وفعاليات فنية عالمية، حيث خلقت إدهاشاً واسعاً لدى المتلقين والمهتمين بالفنون وبمجال النحت على الأخص، وهي تنطوي على مهارة عالية في التجسيد والتجسيم وتطويع المواد والخامات بفكر راكض وبأيادٍ مبدعة تدرك بالفعل مسارات الصياغة ودروب التشكل والصنعة الفنية..
إنه فنان نموذجي استطاع بكدٍّ عصامي أن يُبدع بإقناع..ويُقنع بإبداع حقيقي، خالص لا ينسلخ عن جذوره وأصوله..وكثيراً ما يقف متأمِّلاً بجانب أجساده الضخمة، يُلامسها، يتفقدها ويحدثها كما لو كانت مخلوقات حيَّة يجد فيها المتلقي براعة يدوية قلَّ نظيرها موسومة بروحانيّة تعبيرية تَسِمُ ملامح أجساد منحوتة تنتمي إلى عصور من التاريخ الماضي وإلى عوالم الأساطير المدهشة..
رجل بأصابع ساحر
لسنوات عديدة، تناول الفنان أوسمان سو عبر مجموعاته النحتية الطينية والبرونزية قضايا الإنسان والأفارقة وقبائل النوبة (جنوب السودان) وقبائل الزولو Zulu بقيادة شاكا Chaka والماساي Maasaï شبه الرحل من كينيا وتنزانيا (توجد هذه السلسة النحتية في ملك الجمعية الوطنية السينغالية)، وهي قبائل محاربة معروفة بمناهضتها للسيطرة الأوروبية، حيث عرف بنحته لتماثيل ضخمة لأجساد بشرية بعضلات مفتولة أبطالها مصارعين قادمين من جبال النوبة، وقد شدَّت هذه المنحوتات أنظار أكثر من ثلاثة ملايين زائر حين عرضت على جسر الفنون Pont des arts المطل على نهر السين في العاصمة باريس عام 1999، إلى جانب إبداعه لمنحوتات مماثلة تستلهم ثقافة الشعوب الأميركية الأصلية.
في هذه التجربة النحتية، تظهر أجساده طبيعية قوية وفي حركات جسمانية دؤوبة (راقصة، راكضة، مندفعة، جاهزة للدفاع عن حرمة القبيلة..). إنها تجسِّد الأشكال الإنسانية المستوحاة من التراث الإفريقي القديم والحديث، وقد استعمل في إنجازها مواد متنوِّعة، منها مزيج حديد الباطون أو الخرسانة المسلحة والبلاستيك المحروق والقش وألياف الجوت والخيش المدمج مع الطين، منها مثالاً تماثيل قبيلة الأب “نوبا” (1984)، والأب “ماساي” (1990)، والأب “بولز” (1993)، وغير ذلك من الآباء الرُّوحيين المنتسبين إلى قبائل وإثنيات مقاتلة في أرجاء المنطقة الإفريقية زمن الاستعمار، الأمر الذي جعل العديد من منحوتاته تنطوي على دلالات سياسية وجمالية في آن.
ولأن النحت يرتبط كما العمارة بالمجال البيئي، حيث يضفي على الفضاءات والأمكنة العمومية صبغة خاصة ومتفرِّدة تجعل الإنسان يستمتع بالروائع الفنية المجسَّمة والنماذج والنصب المخلِّدة لشخصيات وأحداث مبصومة في تاريخ البشرية، فإن النحات سو أنجز منحوتات أخرى مماثلة تدخل ضمن سلسلة إبداعية أطلق عليها اسم “شكراً” خصَّصها لشخصيات ميَّزت حياته، وجوه مشهورة من عالم الأدب والسياسة، أبرزهم فيكتور هوغو، نيلسون مانديلا، مارثر لوثر كينغ، توسان لوفرتور..إلى جانب والده الذي تأثر برحيله..
إنها إبداعات نحتية تنتمي إلى فئة النصب التذكارية والمنحوتات الميدانية والمجسَّمات الفنية التي يغتني بها الفن الحديث والمعاصر على غرار منحوتة المفكر Le Penseur لأوغست رودانA. Rodin التي نفذها بواسطة الرخام والبرونز وهي تنبت وسط حديقة تحمل اسمه في باريس، وكذلك منحوتات هنري مور H. Moore ذات الأشكال التجريدية والعضوية المصنوعة من الحجر والبرونز ومنحوتة الإبهام لسيزار César الموجوة في باريس، دون الحديث عن منحوتات كونستانتين برانكوزي C. Brâncuși المصنوعة أساساً من الخشب والحجر والمعدن والمنحوتات النحيلة المندفعة عند ألبرتو جياكوميتي A. Giacometti..وغير هذه النماذج كثير..
وقد سبق للكاتب جون ماركوسJohn Marcus أن وصف أوسمان سو بـ”رجل بأصابع ساحر”، وقال بأنه “لا ينحت فقط الطبيعة المعقدة للبشر والأشياء والمشاعر والحواس، بل يستخرج منها طاقة الأرض الحيوية ليخلق الإنسان في صورة الإنسان، ويستخرج من الجماد الذاكرة الأساسية للأحياء، فيسجنها ليطلقها أكثر، ويضغطها ليفرز جلالها”..هذه الطاقة تجسّدها منحوتاته الضخمة التي تنتصب داخل مساحات كبيرة، حيث تمكن الزوار والمارة من مشاهدتها على مسافات بعيدة. إنها منحوتات واقفة، نابتة ومتأهِّبة تراقب المكان وتحرسه، يتوارى خلف هيئاتها وبنياتها تاريخ واسع من المقاومة والنضال ضِدَّ القوى الكولونيالية التي غزت إفريقيا واحتلتها لسنوات عديدة، بجانب منحوتات أخرى تمجِّد للطقوس والأساطير والاحتفاليات القديمة عند الشعوب الإفريقية..
من إنجازات الفنان سو كذلك أنه كان بدأ في إنجاز تمثال النهضة الإفريقية La Renaissance africaine في السينغال وأتممه النحات فيرجيل ماغوريسان Virgil Maghuresan، وهو أضخم تمثال في القارة الإفريقية مصنوع من البرونز والنحاس يجسِّد أسرة إفريقية مكوَّنه من ثلاثة أفراد (أب، أم وطفلة) تعانق الحرية بعد أن تخلصت من الرق والعبودية، والذي أنجز بقرار من الرئيس الأسبق عبد الله واد Abdoulaye Wade الذي قال عنه: “إنه قوة دافعة وجاذبة لعظمة واستقرار واستدامة إفريقيا”.
نُصب هذا التمثال بارتفاع يبلغ 52 متراً فوق أحد التلال البركانية خارج العاصمة داكار مطلاً على المحيط الأطلسي في ضاحية أواكامOuakam يتمُّ الوصول إليه عن طريق درج كبير من 198 درجة، وهو من تصميم المهندس المعماري السنغالي بيير غوديابي P. Goudiaby وإنشاء شركة من كوريا الشمالية. وفي عام 2001، وبتكليف من اللجنة الأولمبية الدولية، أبدع سو منحوتة ضخمة لعدَّاء Coureur على خط البداية وهو يتأهب لخوط السباق، استعمل في إنجازه مواده وخاماته الطبيعية المعروفة. تمَّ تدشين المنحوتة في داكار بتاريخ 8 فبراير 2001 أثناء اجتماع اللجنة المذكورة، وهي موجودة راهناً بالمتحف الأولمبي في لوزان بسويسرا منذ صيف عام 2002.
وقد حظي المنجز النحتي لدى الفنان أوسمان سو باهتمام الكتاب والنقاد الأجانب، أبرزهم مؤرِّخة الفن في باريس فرانسواز مونا F. Monnin التي وضعته في مصاف أعظم النحاتين في العالم مثل أوغوست رودان، قائلة “لقد غيَّر سو حقّاً من مسار تاريخ النحت المعاصر”، وهي مديرة لمعارضه الفنية منذ عام 1993 إلى جانب إنجازها لكتاب مونوغرافي موسوم بـ”أوسمان سو” صادر عام 2014 عن دار النشر Ides et Calendes في باريس.
وقبل ذلك، أنجز عام 1996 فيلم قصير عن حياة أوسمان سو الفنية (26 د.)، من إخراج زوجته بياتريس سوليBéatrice Soulé ، وهو يجسِّد قصة حب بين رجل ومنحوتاته، بين رجل وامرأة..
بهذا المنجز النحتي المتنوِّع، يظلُّ النحات أوسمان سو مبدعاً استثنائيّاً متميِّزاً بالجمع بين الفن والسياسة والثقافة الشعبية بحسٍّ فني ممتع وبرؤية جمالية واعية، إنه صاحب اشتغال تشكيلي رمزي يُبرز التزامه واحترامه لهويته ولخصوصيته التي منحته تأشيرة مفتوحة للولوج إلى العالمية والانخراط فيها بإبداعات فنية خلاقة، راقية..وإنسانية أيضاً..
بقلم: إبراهيم الحَيْسن