يخلد الشعب المغربي ومعه أسرة المقاومة وجيش التحرير يوم الثلاثاء 5 يوليوز 2022 الذكرى الخامسة والستين لإعطاء انطلاقة أشغال بناء طريق الوحدة التي شكلت حدثا تاريخيا جيليا ونوعيا غداة حصول المغرب على استقلاله، وعنوانا من عناوين الجهاد الأكبر الذي أعلن عنه بطل التحرير والاستقلال جلالة المغفور له محمد الخامس في خطابه التاريخي عند عودته من المنفى إلى أرض الوطن
فـي يوم 15 يونيـو 1957، وجه جلالة المغفور له محمد الخامس من مدينة مراكش نداء ساميا إلى الشباب المغربي لاستنهاض الهمم وإذكاء العزائم من أجل التطوع في إنجاز مشروع وطني كبير يهدف إلى ربط شمال الوطن بجنوبه حيث قال جلالته : “…إن من بين المشاريع التي عزمنا على انجازها لتدعيم التوحيد الحاصل بين منطقتي الوطن شماله وجنوبه، إنشاء طريق بين تاونات وكتامة تخترق ما كان من قبل حدا فاصلا بين جزأي الوطن الموحد، وذلك ما حدا بنا إلى أن نطلق عليه اسم طريق الوحدة…”.
وبنفس المناسبة، زف جلالته نبأ تطوع ولي العهد، سمو الأمير مولاي الحسن للمشاركة في ورش المشروع الوطني حيث قال: “…وإن ولي عهد مملكتنا الحسن أصلحه الله قد سجل اسمه أول متطوع جريا على مألوف عادته في تجنيد نفسه دائما لخدمة المصالح العليا للشعب والوقوف بجانب العاملين من أجل سعادته ورفاهيته…”.
والواقع أن المغرب غداة الاستقلال، كان يتوفر على شبكة طرقية يصل طولها إلى حوالي 20 ألف كلم. إلا أن توزيعها الجغرافي عبر التراب الوطني لم يكن شاملا لكل المناطق وكانت العلاقات بين أقاليم الشمال والجنوب تتسم بالطابع العرضي وانعدام الطرق الأفقية التي تخترق المنطقة الشمالية في اتجاه البحر الأبيض المتوسط، مما طرح مطلبا ملحا أمام مغرب الاستقلال، جعل جلالة المغفور له محمد الخامس يبادر إلى نهج سياسة مقدامة في مجال التجهيزات الطرقية من أجل تغيير البنيات الوظيفية التقليدية للطرق التي كانت ترتكز في السابق على خدمة مصالح المستعمر، وإعطاء الأولوية لبناء طرق بالأقاليم الشمالية والجنوبية لترقى إلى مستوى التجهيزات الموجودة بوسط وغرب البلاد.
وكان في مقدمة المشاريع المبرمجة إنشاء طريق بشمال الوطن تربط بين تاونات ومركز كتامة على طول 80 كلم أطلق عليها اسم طريق الوحدة، وكلمة “الوحدة” أو “التوحيد” التي ركز عليها المشروع لها دلالة رمزية كبرى. فبالإضافة إلى الربط بين منطقتي الشمال والجنوب، فإن تجميع الشباب المتطوعين لبنائها من مختلف جهات المغرب وتكتلهم وتعاونهم وتضامنهم بحماس اكتسى أهمية كبرى على الصعيد الوطني تجسيدا لقيم الوحدة والتضامن والتعاون.
وقد تجند لهذا المشروع 12 ألف شاب متطوع للعمل طيلة الأشهر الثلاثة للفترة الصيفية، بمعدل 4 آلاف شاب في كل شهر، ينتمون لسائر أرجاء الوطن. وانتصبت أوراش العمل كمدارس للتكوين يتلقى فيها المتطوعون دروسا تربوية وتداريب ميدانية وعسكرية، تجعل منهم مواطنين صالحين قادرين على تحقيق مشاريع عمرانية في مراكز سكناهم، وذلك تجسيدا لفكرة التجنيد والخدمة المدنية لبناء المغرب الحر المستقل.
وقد حظي المشروع بتأطير بيداغوجي وتربوي لمنظومة التأطير والتدبير وأعمال اللجان المختصة التي اشتغلت منذ نداء بطل التحرير والاستقلال والمقاوم الأول جلالة المغفور له محمد الخامس، وهي لجنة قبول الطلبات وتوزيع الاستدعاءات وتنظيم المخيمات على طول الطريق ولجنة المواد والتموين والمواصلات، وتهييء هذه المخيمات لاستقبال المتطوعين وتوفير جميع الضروريات المادية والصحية والثقافية، بحيث يستوعب كل مخيم 250 متطوعا موزعين على 13 خيمة وتضم كل خيمة 25 سريرا، تسيرهم لجنة تضم التخصصات التربوية والفنية والعسكرية وشؤون التموين والطبخ والمواصلات. واتخذت التدابير الصحية بتعيين ممرض في كل مخيم ومركز لتوزيع الأدوية عند الحاجة. وتم إسناد مهام تسيير المخيمات إلى قيادة عامة مقرها في منتصف الطريق –بموقع ايكاون- وتتكون من مندوب وخليفة وطبيب ومهندسين مسؤولين وضابط وكاتب عام ومسؤولين عن الراديو والصحافة والسينما ومسؤولين عن التموين والمواصلات والمياه والغابات والبريد ورجال المطافئ، والمحافظ على النظام الداخلي للحياة في المخيمات بمشاركة المتطوعين أنفسهم بواسطة المندوبين المنتخبين عن كل خيمة، وإشراف لجنة من 16 شخصا على كل ورش. وصباح يوم الجمعة 5 يوليوز 1957، أعطى جلالة المغفور له محمد الخامس انطلاقة الورش الوطني لطريق الوحدة معاينا على متن سيارة “جيب” معالم الطريق، كما أدى جلالته رحمه الله صلاة الجمعة بايكاون.
واتسمـت مراحـل الإعـداد للمشـروع بأنشطة مكثفة وأعمال رائدة لسمو ولي العهد الأمير مولاي الحسن آنذاك الذي أولى عناية خاصة لتعبئة الشباب وشحذ الهمم وإذكاء العزائم، معطيا القدوة والمثال بانخراطه الفاعل في مهام الإشراف والتدبير والانجاز ولقاءاته بالشبيبة وحواراته معها حول فلسفة المشروع وأبعاده الوطنية كتحدي ورهان يتحتم ربحه. وأشرف المناضل والقائد الوطني والسياسي المهدي بنبركة على تأطير جموع المتطوعين الشباب الوافدين من كل أرجاء الوطن لتلقينهم قيم العمل الوطني التضامني والتشاركي وتربيتهم على الروح الوطنية والإخلاص في خدمة الوطن بإرادية وطوعية ومواطنة صادقة وسلوك مدني قويم بين مكونات المجتمع في النهوض بمشاريع تنموية رائدة وواعدة بالتقدم والازدهار.
ولقد حفلت الشهور الثلاثة من يوليوز إلى أكتوبر 1957 بمظاهر التجند التام والعمل البناء في غمرة الحماس الوطني العارم وأجواء التعبئة لإنجاز مشروع وطني تم اتخاذه واعتباره مدرسة رائدة لتلقين وإذكاء الروح الوطنية وتأمين التكوين والتأهيل للقدرات والكفاءات فضلا عن الفضاءات التربوية والثقافية والفنية، مما أعطى لمراحل الانجاز إشعاعا واسعا لمشروع وطني ومجتمعي ذي أبعاد تنموية اجتماعية واقتصادية وأكثر من ذلك، مشروع يمتد لبناء الإنسان وصقل مواهبه وقدراته ونشر قيم التضامن والتطوع والتكافل الاجتماعي والتعاون وتفجير الطاقات الخلاقة على درب البناء والنماء وإعلاء صروح المغرب الجديد.
وفي مستهل شهر أكتوبر 1957، كان المغرب على موعد مع الحدث التاريخي المبشر بانتهاء أشغال طريق الوحدة، في غمرة الاعتزاز الوطني بهذه المنجزة الكبرى والتي تكللت بخطاب جلالة المغفور له محمد الخامس في حفل استعراض متطوعي طريق الوحدة حيث خاطب جلالته جمهور المتطوعين بقوله: “لكم يطفح قلبنا سرورا وابتهاجا ونحن نجتمع بكم اليوم، وقد تكللت أعمالكم ولله الحمد بالنجاح وبرزت للعيان نتائج جهودكم وأشهدتم العالم على أن أبناء المغرب إذا تحملوا مسؤولية، قاموا بها خير قيام، وإذا اتجهت همتهم إلى غاية مهما عظمت وعسرت، فلا بد أنهم بالغوها”.
وأضاف جلالته معتزا بهذا الانجاز التاريخي الخالد مبرزا دلالاته بقوله: “بفضل هذه الطريق المباركة، تضاعفت وسائل الاتصال بين الشمال والجنوب، وتم التوحيد بينهما على صورة أكمل، ذلك التوحيد الذي طالما كافحنا من أجله وتحرقنا شوقا إلى استرجاعه، وأي دليل أقوى على تعلق المغاربة بوحدتهم من هذه المشاركة في أعمال المتطوعين التي قام بها سكان هذه المناطق بحماسة وإيمان”.
أجل، إن الاحتفاء بالذكرى المجيدة لطريق الوحدة واستحضار فلسفتها وأبعادها يستحث أجيال اليوم والغد لمواصلة مسيرات الحاضر والمستقبل ببلادنا لإعلاء صروحها وتعزيز بنياتها وتحقيق تنميتها واندماجها الكلي اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبشريا، بما يوطد أواصر الوحدة الترابية والجهوية المتقدمة والموسعة.
كما تغتنم أسرة المقاومة وجيش التحرير مناسبة الاحتفاء بهذه الذكرى الغالية، لتعلن عن تأييدها التام وتعبئتها المستمرة ويقظتها الموصولة إلى جانب سائر فئات وأطياف المجتمع المغربي والإجماع الوطني وراء قائد البلاد المفدى جلالة الملك محمد السادس من أجل صيانة وحدتنا الترابية وتثبيت مكاسبنا الوطنية.
واحتفاء بهذا الحدث الكبير، واستحضارا لما يطفح به من معاني الوطنية الخالصة والمواطنة الايجابية والفاعلة، ستنظم المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بتعاون مع السلطات الإقليمية والمحلية مهرجانا خطابيا يوم الثلاثاء 5 يوليوز 2022 على الساعة الحادية عشرة صباحا بقاعة الاجتماعات بملحقة عمالة إقليم تاونات، تلقى خلاله كلمات تستحضر الأبعاد التاريخية والدلالات الرمزية لهذه الذكرى الغراء.
وسيتم بهذه المناسبة، تكريم صفوة من قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وتوزيع إعانات مالية على عدد من المنتمين لهذه الأسرة الجديرة بكل عناية وتشريف، فضلا عن زيارة فضاء الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير بتاونات والمعلمة التذكارية المخلدة لهذه الذكرى المجيدة بقنطرة اسكار بالجماعة الترابية الزريزر.
كما سيتم تنظيم برامج أنشطة تربوية وثقافية وتواصلية مع الذاكرة التاريخية بسائر الفضاءات الحاضنة للذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير وتعدادها 98 عبر التراب الوطني بمشاركة المنتمين لأسرة المقاومة وجيش التحرير وفعاليات المجتمع المدني والعمل الجمعوي.
<إعداد: سعيد ايت اومزيد