يمكن تحديد علاقة فقيد الثقافة العربية، الراحل الدكتور جابر عصفور، بالمغرب، انطلاقا من مجموعة مستويات متضافرة فيما بينها، إنسانيا وثقافيا ووجدانيا ورمزيا، ساهمت كلها في التأسيس لعلاقة خاصة مع المغرب، امتدت بكامل ثقلها، وستظل ممتدة حتى بعد رحيله المأسوف عليه، في التاريخ والثقافة والذاكرة والوجدان المغربي، وقد أضحت علاقة متداولة بشكل واسع لدى المهتمين بالثقافة والفكر والنقد الأدبي والإبداع في المغرب، فكتب عنها المثقفون والأدباء والجامعيون المغاربة، وتناولها الدكتور جابر نفسه في كتبه ومداخلاته وشهاداته وحواراته.
صحيح أن ثمة شخصيات أخرى، من عالم الفكر والثقافة والأدب والفن في مصر، تشارك الدكتور جابر هذا الاهتمام الخاص بالمغرب، من موقع انتصارهم جميعا لهذا الأفق الإنساني والثقافي والأدبي المغربي المشترك بين مصر والمغرب، أذكر، على سبيل المثال فقط، بعض الراحلين منهم: طه حسين، جميل عطية إبراهيم، حسن حنفي، إدوار الخراط، جمال الغيطاني، سعيد الكفراوي، صلاح فضل. ويبقى الدكتور جابر عصفور، في هذا الإطار، حالة استثنائية وفريدة، لعدة اعتبارات متداخلة فيما بينها، نذكر منها:
– تعدد صداقاته مع المثقفين والمبدعين والنقاد المغاربة من أجيال مختلفة، وأيضا مع مسؤولين على مؤسسات ثقافية وأكاديمية، وهو ما جعله صديقا لهم جميعا؛
– تعدد سفرياته في عديد من المناسبات إلى المغرب، مشاركا في الملتقيات والمهرجانات والندوات والمعارض، ومكرما من قبل الجامعات والمهرجانات والجمعيات الثقافية المغربية، سواء بشكل غير مباشر، كما هو الحال في تلك الندوة الكبرى حول المشروع النقدي للدكتور جابر عصفور، تقديرا لعطاءاته ولمساهماته المتنوعة في إثراء الحقل الثقافي، نظمها “مختبر السرديات” بكلية آداب بنمسيك بالدار البيضاء في شهر نونبر 2010، أو حضوريا، كما في المؤتمر الدولي، الذي نظمه “مختبر تحليل الخطاب وأنساق المعارف” و”مختبر البيان والقيم ومناهج التأويل” بكلية آداب مراكش، في شهر أكتوبر عام 2019، في موضوع “أسئلة المنهج في قراءة التراث – جابر عصفور من التراث إلى التنوير”، وكانت أول زيارة للدكتور جابر لمدينة مراكش، وهو اللقاء العلمي الذي نظم، احتفاء ببلوغ المحتفى به عامه الخامس والسبعين من عمره. كما أنه الاحتفاء الذي رد عليه المحتفى به، مباشرة بعد عودته إلى القاهرة، بمقال بليغ ومعبر وطويل، نشره بجريدة الأهرام العريقة، في شهر نوفمبر 2019، فجاء مقالا طافحا بمشاعر الفرح والسعادة والعرفان، تجاه الجهد العلمي الشاق الذي بذله الدكتور جابر في حياته، حول موضوعات الندوة، بمثل ما جاء عاكسا لمستوى إعجاب الدكتور جابر بمدينة مراكش وبتاريخها ورجالاتها وكرمها، وبترحيب أهلها به ضيفا كبيرا. – مرجعية كتبه وأبحاثه داخل الجامعات المغربية وخارجها، ما جعلها مراجع لا مناص منها للأساتذة والنقاد والباحثين والطلبة، في مختلف مناحي المعرفة والبحث والنقد الأدبي، وذلك بشكل يمكن القول معه إن كتابات الدكتور جابر عصفور، أضحت، منذ أولى إصداراته، من أهم المراجع بالنسبة لهؤلاء جميعا.
كذلك هو الحال بالنسبة لترجماته العديدة والرصينة الصادرة في كتب، ولمقالاته المتناثرة، هنا أو هناك، في المنابر الثقافية العربية، المحكمة وواسعة الانتشار، والمعروفة بحجيتها وبقوتها المرجعية المضيئة والمؤثرة؛
– حبه الاستثنائي والمتواصل لبلاد المغرب، بما هو حب ظل قائما ومتواصلا إلى أن توفاه الأجل المحتوم، بمثل حبه لتاريخ هذا البلد وحضارته، ولتقاليده وموسيقاه وأطباقه، فضلا عن تنويهه الدائم بالعلاقات التاريخية والثقافية والدينية بين المغرب ومصر، وهو ما جعل الدكتور جابر عصفور مرحبا به دائما في المغرب، باعتباره فردا من هذه الأمة، وجعله كذلك شخصية كبيرة، حظيت بتكريم من جلالة ملك المغرب محمد السادس، بوسام رفيع “وسام المكافأة الوطنية”، من درجة قائد، عام 2010؛
– ترحيبه اللافت بوفود المثقفين والباحثين والنقاد والمبدعين المغاربة، ممن كانوا يزورون مصر، للمشاركة في ملتقياتها، وخصوصا تلك التي كان ينظمها المجلس الأعلى للثقافة، إبان رئاسته للمجلس وبعدها، وأيضا على مستوى مجلة “فصول” التي ظلت مرحبة بالمساهمات المغربية، منذ أعدادها الأولى، و”المركز القومي للترجمة”، حين كان يشرف عليها جميعها الدكتور جابر، بكل مسؤولية واقتدار، وفي غيرها من المحطات الأخرى.
فضلا عن ذلك، كان الدكتور جابر عصفور رحمه الله، حريصا دائما على أن يكون الوفد المغربي، من بين أكبر الوفود العربية المشاركة عددا، بما يعرف عن شخصه من أريحية وترحيب وكرم، وبما يضمره من تقدير للثقافة والأدب في المغرب، بمثل ترحيبه بالمشاركين في هذا الملتقى أو ذاك، تلازمه في ذلك ابتسامته العريضة، فكانت طقوس الترحيب والاستضافة تتجاوز فضاء مكتبه وردهات المجلس الأعلى للثقافة، لتمتد إلى بيته العامر والأنيق، وإلى غيره من الأمكنة الخارجية المفتوحة، بما يتيح للجميع فرصا وأجواء أخرى لمزيد من الألفة والضحك والنكتة والتحرر والانتشاء، وقد أسعفني الحظ أن حضرت بعض تلك اللقاءات الجميلة، ببيته وبمطعم إحدى البواخر الراسية فوق النيل؛
– كون الدكتور جابر عصفور يشكل دائما، بحضوره البارز والمؤثر، جسرا للتواصل بين المثقفين والكتاب في مختلف البلدان العربية، بما لعبه، رحمه الله، من أدوار طلائعية على مستوى تيسير سبل التواصل والحوار الثقافي بين المشرق والمغرب، ومن ضمنها حرصه على تثمين العلاقات الثقافية بين مصر والمغرب، وعبر مجموعة من القنوات والإجراءات المضيئة؛
– كون الدكتور جابر عصفور شخصية ثقافية عربية مؤثرة ورفيعة المستوى، بما يشهد له به من حضور إنساني وارف، ومن امتلاء وامتداد وجداني في قلوب محبيه وقرائه من المغرب والمشرق، على حد سواء.
لقد كتب لي أن أشارك في بعض الندوات التي كان الدكتور جابر عصفور حاضرا ومشاركا فيها، بكامل ثقله المعرفي والاعتباري، بما فيها بعض اللقاءات التي تمت في المغرب، وتحديدا في دورات “موسم أصيلة الثقافي الدولي”، وفي مصر، وخصوصا في ملتقيات “الرواية” و”الشعر” و”الثقافة” و”العلاقات الثقافية” المصرية المغربية، وغيرها، التي نظمت في “المجلس الأعلى للثقافة” بالقاهرة، وفي الكويت، في إطار “ندوة مجلة العربي” السنوية، بل إنه كثيرا ما أسعدني الحظ بأن تشرفت بلقائه والتحدث إليه، رحمه الله، في هذه المحطات الثقافية الجميلة وخارجها، ما جعلني أقترب أكثر من أفقه الإنساني الرحب، وأنسج معه علاقة صداقة ومودة، كانت تشكل بالنسبة لي، قبل هذا كله، حلما مرتجى، سرعان ما تحقق بشكل جميل وحميمي.
ورغم أن المدة كانت تطول أحيانا بين لقاء وآخر، إلا أنه في كل لقاء مع الدكتور جابر عصفور، أشعر بأن كل لقاء سابق كان قريبا جدا، فمن المعروف عنه، رحمه الله، أنه ظل معدنا أصيلا لا يصدأ، ولا يتبدل، فظل وفيا لمعدنه، بمثل وفائه لأساتذته ولطلبته ولصداقاته الممتدة كونيا، لم يغيره لا الزمان ولا المناصب ولا تبدل الأوضاع والأحوال.
لقد كان لحضور الدكتور جابر عصفور في هذا الملتقى أو ذاك، وفي هذا البلد وغيره، طعم خاص ونكهة استثنائية، فحضوره كان يجسد دائما معنى بما يضفيه من قيمة على تلك اللقاءات، بل إن مجرد حضوره، كان يشكل مؤشرا مسبقا على نجاح اللقاءات التي كان يشارك فيها، بما يضفيه حضوره من طعم خاص، وأنا أتحدث هنا من موقع شاهد، عاين عن قرب ما يعنيه أن يكون الدكتور جابر حاضرا في هذا الملتقى أو ذاك.
فبما أن كلمات الدكتور جابر عصفور وتدخلاته، كانت تبرمج دائما في الجلسات الافتتاحية لتلك اللقاءات التي يشارك فيها، وهو أمر طبيعي جدا، لما للرجل من مكانة علمية واعتبارية كبيرة ورفيعة، فقد كانت جلساته دائما تشهد حضورا جماهيريا وازنا ومتابعة إعلامية واسعة. ولا غرابة في ذلك، ما دام أن علاقة الدكتور جابر عصفور بمختلف المشاهد الثقافية العربية، تبقى، في جوهرها، علاقة عشق متأصلة وممتدة في هذا المشهد أو ذاك، وستظل متواصلة، رغم غيابه القاسي، من خلال مؤلفاته ودراساته وكتاباته العديدة، كما ستظل خيوطها الحريرية متناسلة وممتدة في زمننا، وفي أفقنا الإنساني والثقافي والمعرفي والأدبي والرمزي والوجداني، حتى بعد رحيله المأسوف عليه، فبقدر ما تمتد فينا سيرته العطرة، بقدر ما تمتد فينا مصنفاته، أيضا، في محافلنا الثقافية العربية، وفي كتبنا ودراساتنا وأبحاثنا ومقالاتنا ونقاشاتنا، وغيرها.
لا أتذكر بالضبط تاريخ ارتباط الدكتور جابر عصفور بالمغرب، ولا زمن ارتباط المغرب به. فما يبدو أنه ارتباط تولد إبان الملتقيات والندوات التي كانت تنظم في مصر أولا، ثم توطدت وتعمقت أكثر، عبر مختلف أشكال التواصل التي كانت قائمة بين الدكتور جابر عصفور وبعض المثقفين والكتاب المغاربة، قبل أن تنفتح عليه المؤسسات الثقافية بالمغرب، وقد سبقه اسمه إلى الدروس الجامعية، وإلى أصيلة وأكاديمية المملكة ومعرض الكتاب والنشر، وغيرها، بمثل ما أضحت مؤلفاته مراجع في البحوث الجامعية وفي الدراسات والكتب النقدية، بالمغرب.
وشخصيا، لازلت أتذكر بداية تعرفي المباشر على الدكتور جابر عصفور، كان ذلك في بداية الألفية الثانية، وتحديدا عام 2000، إبان إحدى زياراتي الأولى للقاهرة، مدعوا للمشاركة في ملتقى “الرواية المصرية المغربية”، الذي استضافه المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، كان الدكتور جابر عصفور وقتئذ أمينا عاما للمجلس، فيما كان آخر لقاء شاركت فيه إلى جانبه، من تنظيم المجلس الأعلى نفسه، في شهر يوليو عام 2021، في موضوع “مصر/ المغرب.. علاقات ثقافية”، بمعنى أنها علاقة امتدت على مدى عقدين من الزمن والتعارف والتواصل والصداقة والمحبة، وكانت تتوطد أثناء كل لقاء مع الدكتور جابر، في المغرب أو في مصر، أو خارجهما.
ومنذ ذلك اللقاء الأول بالدكتور جابر عصفور، تواصلت الملتقيات والندوات التي كان ينظمها المجلس الأعلى للثقافة، وكنت أدعى للمشاركة فيها، سواء إبان فترة رئاسة الدكتور جابر للمجلس الأعلى للثقافة أو بعدها، مع أمناء عامين آخرين، ممن توالوا على رئاسة هذا المجلس الرائد، فحصل أن توطدت علاقتي بالمجلس الأعلى للثقافة، بل إنني أصبحت، في بعض المناسبات، عضوا في لجان الجوائز التي يمنحها هذا المجلس، وخصوصا منها “جائزة الشعر العربي” و”جائزة الرواية العربية”…
لقد كان الدكتور جابر عصفور حاضرا، باستمرار وبأشكال مختلفة، في المجلس الأعلى للثقافة، رغم أنه لم يعد يتحمل مسؤولية تسييره، حيث ظل يُنظر إليه باعتباره “المؤسس”، ويشهد له بأنه نقل المجلس من إطاره المحلي إلى إطار عربي واسع، حتى أصبح يطلق على المجلس “بيت الثقافة العربية”، كما هو الشأن بالنسبة لإنجازه الثاني، المتمثل في تأسيس “المركز القومي للترجمة”، الذي تحمل مسؤولية أمانته العامة، بكل اقتدار وخبرة وبعد نظر، فنقله من مجرد نواة “محلية” صغيرة إلى حلم “عربي” كبير.
فضلا عن ذلك، جمعتني لقاءات أخرى بالدكتور جابر عصفور، خارج مصر، وخصوصا في بعض دورات “موسم أصيلة الثقافي الدولي” بالمغرب، وفي “ندوة مجلة العربي” السنوية بالكويت. لقد كان الفقيد الراحل يحظى دوما بترحيب كبير وبحفاوة فائقة، أينما حل وارتحل. ومن بين الأمور المثيرة التي يمكن تسجيلها بخصوص حضور الدكتور جابر النوعي في المحافل الثقافية العربية، التي كتب لي أن أحضر بعضها وأشارك في أخرى، أشير، على سبيل المثال، إلى قدرته الفائقة في تقديم مداخلاته، بطريقة مرتجلة وبديعة، تستغرق أحيانا مدة زمنية تفوق الساعة بكثير، يقدمها بلغة فصيحة وبليغة، مستندا في ذلك إلى ذاكرته القوية وثقافته الموسوعية، في استحضار السياقات والمراجع، محافظا على تسلسل خيط حديثه، حريصا على انسجام فقراته، وذلك طوال مدة إلقائه لمداخلته.
ولم يتوقف اهتمام الدكتور جابر عصفور بالمغرب، والتفاعل مع مثقفيه وكتابه عند حدود الملتقيات الثقافية، بل إنه، رحمه الله، بما يعرف عنه من تواضع جم ووفاء واعتراف بالعطاء الثقافي والفكري والنقدي والأدبي لبعض المشاهد الثقافية العربية، ومن متابعة حثيثة ومعرفة قريبة وكبيرة بالواقع الثقافي والأدبي في المغرب وخارجه، كان لا يتوانى عن استحضار المشهد الثقافي والفكري والنقدي والأدبي المغربي، في أسمائه وتراكمه وتطوره، والحديث عنه والتنويه به، في مداخلاته وكتبه، وفي حواراته وتصريحاته وشهاداته الموازية.
ومن بين ما يحسب للدكتور جابر عصفور في هذا الباب، كونه من بين أهم المثقفين والباحثين المشارقة الكبار، الذين أولوا اهتماما خاصا، وبصورة غير مسبوقه، للأدب المغربي المعاصر، إبداعا ونقدا، وخصوصا في شقه المتعلق بالرواية المكتوبة بالعربية، في اعترافه التاريخي بالطفرة الجديدة التي عرفتها الرواية والنقد الروائي بالمغرب، في التفاتة نادرة من باحث وناقد كبير، من حجم الدكتور جابر عصفور، بما يمتلكه من حجية وبعد نظر وسداد وقيمة معرفية.
ويبقى كتاب “زمن الرواية” للدكتور جابر عصفور، الصادر في طبعته الأولى عام 1999، بما تضمنه من طروحات وأفكار متطورة وجريئة، وبما أثاره من جدل ونقاش وردود فعل، داخل مصر وخارجها، وأيضا بما عرفه من تطوير لطروحاته في كتاب آخر بعنوان “زمن القص – شعر الدنيا الحديثة”، الصادر سنة 2019، أقول يبقى كتاب “زمن الرواية” من بين أهم الكتب التي خصص فيها الدكتور جابر، وتحديدا في فصله الرابع “ملاحظات ختامية”، حيزا مهما للحديث عن الرواية المغربية والنقد المغربي، في بادرة معرفية ونقدية غير مسبوقة، حيث تعرض في كتابه لما سماه بـ “ملتقى الرواية المغربية” و”تجربة الرواية المغربية” و”ظاهرة الرواية المغربية” و”طفرة النقد المغربي”.
وتناول الدكتور جابر عصفور في دراسة أخرى حول الرواية والنقد الروائي بالمغرب، ضمن كتابه سالف الذكر، الرواية المغربية من خلال بعض أسئلتها وأسمائها، ومن بين ما يلفت النظر، هو أن الدكتور جابر لا يتوانى في كتابه في أن يستشهد بنقاد مغاربة جدد (محمد أمنصور، الحبيب الدايم ربي)، إلى جانب أسماء أخرى مكرسة، كمحمد برادة وعبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي، على سبيل المثال، بمثل إشادته بالرواية المغربية، منبها، في الوقت نفسه، إلى “قصور النقد العربي المعاصر في المشرق وعدم تخلصه من عقدة المركزية، التي حالت بينه والمتابعة المتكافئة للأعمال الأدبية المتميزة في المغرب العربي”(ص272).
وتأتي هذه الإشادة من الدكتور جابر عصفور بالرواية المغربية، من منطلق الدهشة التي خلقتها هذه الرواية، في تراكمها المطرد وفي أسمائها الأولى والمتعاقبة، شأنها في ذلك شأن توقفه عند أفكار عبد الله العروي، تلك التي يسوقها الدكتور جابر عصفور في دراسته الثانية “ظاهرة مغربية”، ليبرز هذا الانجذاب المعاصر إلى “فن الرواية”(ص280)، وليستدل، عبر ذلك كله، على أننا نعيش فعلا “زمن الرواية”… كذلك كان اهتمام الدكتور جابر عصفور بـ “طفرة النقد المغربي”، واكتشاف القارئ المشرقي، من خلالها، للموجة الأولى للحركة النقدية الجديدة بالمغرب التي أخذت تفرض نفسها تدريجيا، وتخترق المركزية المشرقية، مستدلا على ذلك بدراسة محمد برادة عن محمد مندور، ودراسة محمد بنيس عن ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، باعتبارهما معا شكلا بداية معرفة المشرق بالحركة النقدية الجديدة في المغرب، تخالف الأصوات المشرقية السائدة في ذلك الوقت، وترهص بحضور مغربي واعد، يدعم ويحاور الحركات المحدثة في المشرق(ص 281).
ولم يتوقف تناول الدكتور جابر عصفور للأفق الإبداعي والنقدي المغربي، عند هذا الحد، بل واصل الإشادة به، متوقفا عند كتاب “الرواية العربية: واقع وآفاق”، الذي يضم أعمال “ملتقى الرواية العربية الجديدة”، فاعتبره “أول كتاب يسهم فعليا، في إشاعة الصوت المغربي في الرواية، ويضع حداثة الرواية المغربية في سياق أشمل من حداثة الرواية العربية، وينقل الخطاب المغربي في نقد الرواية إلى دوائر قرائية متسعة”(ص283).
ويواصل الدكتور جابر عصفور تنويهه بالطفرة الموازية للنقد المغربي، مستهلا كلامه بالإشارة إلى أطروحة أحمد اليابوري الرائدة محليا، عن فن القصة في المغرب، وهي الطفرة التي واصلها دارسون مغاربة آخرون، ممن أشار إليهم الدكتور جابر عصفور، تلاهم جيل جديد من الشباب الأكاديميين المتخصصين في الرواية، كحسن بحراوي في دراسته اللافتة عن “بنية الشكل الروائي”، وبشير القمري في كتابه “شعرية النص الروائي”، حيث توقف الدكتور جابر عصفور عند إبراز بعض خصائص هاتين الدراستين على مستوى ما حققاه من جدة.
فيما تناول الدكتور جابر عصفور دراسات أخرى لكل من حميد لحميداني وسعيد يقطين، مبرزا اهتمام هذا الأخير، في كتبه الصادرة وقتئذ، بالمكونات السردية، منذ كتابه الأول “القراءة والتجربة”، مرورا ببعض كتبه الأخرى الصادرة بعده. وختم الدكتور جابر عصفور دراسته بإبراز جانب من أهدافها المباشرة والضمنية، ويتمثل في تقديم نماذج دالة عن الطفرة النقدية التي حدثت خلال الثمانينيات في المغرب، ولا تزال ماضية في طريقها الصاعد خلال التسعينيات (وقتئذ)، وهو ما أدى، في نظره، إلى ظهور “نقد النقد”، بوصفه اللازمة المنطقية المصاحبة لوفرة الخطاب النقدي الروائي، مستدلا على ذلك بكتاب فاطمة الزهراء أزرويل عن “مفاهيم نقد الرواية بالمغرب”، وبغيرها من النقاد الجدد في المغرب، ممن يواصلون رحلة هذه الطفرة النقدية الجديدة في المغرب، وكلها محاولات جادة لا تكف، في نظر الدكتور جابر عصفور، عن تجريب المناهج العالمية المعاصرة والإفادة التطبيقية منها في تأسيس نقد يليق بالنوع الأدبي الذي أخذ يخايل الجميع بوعوده وإمكاناته”، إلى جانب حدوث حركة موازية، نشطة، في استكمال ترجمة الأصول التأسيسية في نقد الرواية” (ص287).
وخلال “ملتقى الرواية المصرية المغربية” بالقاهرة، الذي أسعدني الحظ بالمساهمة فيه، حصل أن تم توزيع كتيب على المشاركين والحاضرين في ذلك الملتقى، عبارة عن “ببليوغرافيا الرواية المغربية”، كنت قد أنجزتها في السنة نفسها التي نظم فيها الملتقى (2000)، فلم يفت الدكتور جابر عصفور، الإشارة إلى هذه الببليوغرافيا وإلى سياق توزيعها على الحاضرين، حين حديثه عن اطراد التراكم الروائي في المغرب، من فترة زمنية إلى أخرى، مستندا في ذلك إلى معطيات التراكم الروائي كما تضمنته تلك الببليوغرافيا، كما هو الشأن بالنسبة لإشارته لكتاب جماعي، كنت قد أعددته بعنوان “الرواية المغربية: أسئلة الحداثة”(1996)، وذلك في إطار حديث الدكتور جابر عصفور عن وضع الكتاب المغاربة لإنجازات الحداثة موضع مساءلة.
ولم يتوقف هذا التفاعل الإنساني والثقافي بين جابر عصفور والمغرب، عند هذه الحدود التي أتينا على بعضها، بل لا بد، هنا، من الإشارة إلى أن تجربة الدكتور جابر عصفور الفكرية والنقدية، في انتشارها العربي الكبير وفي أسئلتها المثيرة، كانت موضوع رسالة ماجستير، أعدها الباحث المغربي الدكتور يحيى بن الوليد، وهي الأولى من نوعها عربيا، في موضوع “قراءة التراث النقدي عند جابر عصفور”، صدرت بعد ذلك في كتاب بمصر، بعنوان “التراث والقراءة: دراسة في الخطاب النقدي عند جابر عصفور” (القاهرة 1999).
تلك، إذن، جوانب من السيرة العطرة والمضيئة للدكتور جابر عصفور، وهو ما يعكس جانبا من تواضعه الذاتي والمعرفي والعلمي، في اعترافه، وهو الباحث العربي المشرقي الكبير، بإنجازات أحد المشاهد الأدبية العربية، مجسدا، هنا، في المشهد الروائي والنقدي المغربي، وذلك بشكل غدا معه المغرب الروائي والنقدي، مرجعا آخر، يستدل به الدكتور جابر في أبحاثه ويدافع عبره عن أطروحته المركزية: “زمن الرواية”، في كتابه الحامل لعنوان الأطروحة نفسها.
ولا غرابة في ذلك، فالدكتور جابر عصفور عودنا دائما، في حياته وكتاباته، وفي آرائه وتحاليله، على مواقفه المنفتحة تجاه تغير مفهوم ثنائية المركز والهامش، باعتباره قياسا نقديا يختلف عنده عما ألفناه من قياسات تقليدية سابقة، في استنادها إلى النعرة الإقليمية الضيقة، المستبعدة للاعتراف بإنتاجات الهوامش، وهو الاهتمام الذي واصله الدكتور جابر عصفور في قراءته لإبداعات أسماء مبدعات ومبدعين آخرين، جاؤوا من الأطراف (قراءته لرواية “سيدات القمر” للكاتبة العمانية جوخة الحارثي، على سبيل المثال)، بعيدا عن أي تعال أو نرجسية شوفينية مزيفة، كما يتقنها آخرون.
هكذا، ظل ناقدنا الكبير الدكتور جابر عصفور، رحمه الله، طوال رحلته الطافحة بالعطاء والكرم، يعرف بحضوره الثقافي والفكري والأكاديمي الوازن والجريء، عربيا وعالميا، فكان بذلك فاعلا حقيقيا في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، مدافعا عن أفقها ومستقبلها في مشرق العالم العربي ومغربه، منتصرا بقوة، وعلى خطى أساتذته الكبار، وعلى رأسهم الدكتور طه حسين، لقيم الحداثة والتنوير والعقل والتجديد والتعدد والتنوع.
بقلم: د. عبد الرحيم العلام