طوت فرنسا صفحة انتخاباتها الرئاسية عقب معركة سياسية وإعلامية ساخنة كانت حافلة بالمفاجآت، وأفضى اقتراع الدور الثاني لأول أمس الأحد إلى نجاح إيمانويل ماكرون في الوصول إلى قصر الإليزيه على حساب منافسته ماري لوبين، مرشحة اليمين المتطرف، وبعد أن كان قد أزاح في الدور الأول مرشحي الحزبين الكبيرين، اليميني واليساري، وذلك في أبرز مفاجأة ميزت رئاسيات هذه السنة.
اختيار الفرنسيين جسد، مبدئيا، رفض شعبوية اليمين المتطرف، وأعلن تمسكهم بالاتحاد الأوروبي والعملة الأوروبية الموحدة، كما أبرز رفض الانغلاق على الذات والانعزالية، لكن، برغم ذلك، فحصول لوبين على أزيد من عشرة ملايين صوت يعبر عن شعور موجود وفعلي بالغضب والإحباط وسط المجتمع الفرنسي وتنامي خطاب الانغلاق والتعصب، وهذا سيكون تحديا جوهريا خلال الانتخابات التشريعية المقررة الشهر القادم، وستفرض توجهات النتائج حينها معرفة خيارات الرئيس الجديد ونوعية تحالفاته…
من جهة ثانية، كان لافتا للانتباه في الاقتراع الفرنسي حجم الامتناع عن التصويت، وأيضا العدد الكبير للأوراق الملغاة أو للتصويت بالورقة البيضاء، وكل هذا لم يكن من دون خلفية سياسية أو رسائل بعثها الناخبون إلى مرشحي الدور الثاني بالخصوص.
وبرغم ميل البعض في فرنسا إلى تفسير إحجام عدد من الناخبين عن التوجه أصلا إلى صناديق الاقتراع (25,44%)، بتزامن يوم التصويت مع منتصف عطلة من ثلاثة أيام، فإن امتناع ميلونشون عن دعوة أنصاره صراحة للتصويت لصالح ماكرون واكتفاءه بالتحذير من التصويت لماري لوبين، بالإضافة إلى فشل ماكرون ولوبين معا في إقناع فئة مهمة من الناخبين، كانا سببين أساسيين في اختيار كثير من الفرنسيين عدم التصويت، ولكن، مع ذلك، فالوضعية لم يكن لها انعكاس كبير على ماكرون، الذي حصد أزيد من 66 % من الأصوات، وبالتالي تحقيق الفوز الواضح.
إن فوز إيمانويل ماكرون، بغض النظر عن كل التعليقات ذات الصلة بتوجهات البرنامج والسياقات السياسية المختلفة، يحيل التفكير والنظر على أسلوب ممارسة السياسة، كما درجت عليه الطبقة السياسية التقليدية هناك، وعلى ما يمكن للخلافات الداخلية في الأحزاب أن تحدثه من آثار مدمرة، وما يمكن أيضا لأخطاء وفضائح بعض السياسيين أن تتسبب فيه لأحزابهم وللبلاد من هزائم ونكسات.
لقد كشفت الحملة الانتخابية الفرنسية الأخيرة عن كل هذا، ولقد ساعدت مرشحا بلا ماضي سياسي كبير، لكي ينط فوق هذه الأحزاب كلها، ولينجح في صياغة لغة ومسار يميزانه عن الآخرين، وليستطيع في الأخير أن يكون الرئيس الأصغر سنا في تاريخ الجمهورية الفرنسية.
فرنسا، فضلا عن كل ما سبق، نجحت في هزم اليمين المتطرف عبر الديمقراطية، ومن خلال صناديق الاقتراع، وبفضل تعبئة الشعب، وهذا درس مهم وأساسي لا بد أن نسجله.
وقدمت لنا فرنسا أيضا حملة انتخابية ساخنة وجاذبة، وبرغم ما تخللها من عنف أحيانا بين المتنافسين، فهي أتاحت التعرف على الأفكار والبرامج، وشهدت مناظرات تلفزيونية ومناقشات عميقة بين الأطراف، وهذا كذلك يعتبر درسا آخر.
في فرنسا، هناك عدد من الناخبين، وإن لم يكونوا متفقين تماما مع أفكار ماكرون، فهم صوتوا له من أجل قطع الطريق عن ماري لوبين، أي أنهم اختاروا الانتصار لوطنهم واستقراره وانفتاحه، ورفضوا الانعزالية والانغلاق، ويعني هذا وجود وعي مدني وسياسي يمكن الاعتماد عليه، وحشده في المحطات الوطنية الكبرى.
في فرنسا، انهزم الحزبان الكبيران في البلاد خلال الدور الأول، وبقي مرشح مغمور في مواجهة مرشحة اليمين المتطرف، لكن كثيرا من السياسيين سارعوا إلى إعلان الاصطفاف إلى جانبه في الدور الثاني، وفضلوا، بذلك، إنقاذ البلاد من التعصب والكراهية، أي تفادي المجهول و…”البلوكاج”، وهذا دليل السياسة عندما تكون واضحة النظر والأولويات، وبلا حسابات صغيرة جدا.
الاقتراع الفرنسي الأخير أبرز إذن أن العالم من حولنا يتغير ويشهد تحولات مصيرية وجوهرية، بما في ذلك على مستوى ممارسة السياسة، ولهذا نحن بدورنا، هنا والآن، علينا أن ندرك معنى كل هذا الذي يجري، وأن نحسن قراءة دروس وتجارب الآخرين بما يخدم مصلحة ومستقبل بلادنا، ويكرس مسارها الديمقراطي واستقرارها المجتمعي وتقدمها التنموي والاجتماعي.
محتات الرقاص