صحيح أن فيروس كورونا المستجد وما تناسل عنه من فيروسات متحورة، حرمتنا خلال شهر رمضان من جلسات الدين والعبادة والود الجماعية الليلية. وأضاعت علينا فرص الصلاة الجماعية والتراويح والانتفاع من الدروس الدينية التي تحثنا على الاستواء والاعتدال والتحلي بالقيم والأخلاق الحسنة. لكن تلك الفيروسات لا يمكنها أن تمنعنا من تحقيق الهدف الأساسي من الشهر الفضيل. بل ستجعلنا ندرك أن العبادة لا تقف عند الخشوع وقت الصلاة، ولا عند السجود والركوع. ولا تقف عن الخضوع والالتزام لكلمات « استووا، اعتدلوا، تراصوا، …»، التي يرددها الأئمة بداية كل صلاة جماعية. كلمات ارتبطت أساسا بالمساجد، من أجل دفع المصلين إلى رص الصفوف والخشوع والإنصات. إلى درجة أن من المصلين من لا ينتظمون إلا بعد سماعها، ومنهم من يسارعون عند كل إقامة صلاة، إلى التحسيس بها بمحيطهم وكأنهم يسمعونها لأول مرة. فيما آخرون باتوا ينتظرونها بلهفة وشوق كلما هموا للصلاة. يعتبرونها إعلانا يسبق إقامة كل صلاة جماعية. تلك الصلاة «الكتاب الموقوت»، التي لم نستفد من صفحاتها من أجل ترسيخ ثقافة الاستقامة والاعتدال خارج المساجد، حيث الانحراف والانحلال والتسيب والتسلط والشطط.. لم نستوعب أن الخشوع داخل المساجد يبقى ناقصا، ما لم تصاحبه وتلازمه سلوكات إيجابية موازية في كل مناحي الحياة.
استووا واعتدلوا.. يرحمكم الله .. كلمات ارتبطت أساسا بالعبادات، تم إلصاقها بالشأن الديني وحرمات المساجد، إلى درجة أنها فقدت معانيها الكبرى. حيث كان من المفروض والواجب أن تكون شعارا يحمله المغاربة والمسلمون، في كل حركاتهم وسكناتهم. وأن تتجسد مفاهيمها في كل تصرفاتهم. لا أحد يدعو إلى الاستقامة والاعتدال عند توظيف أموال الشعب، وبرمجتها في مشاريع واهية أو تافهة.. ولا أحد يدعو إلى الاستقامة والاعتدال عند فرض منطق الولاءات واعتماد أساليب الزبونية والمحسوبية في توزيع ثروات البلاد، وانتقاء الرجل أو المرأة المناسب(ة) للمكان المناسب. لا أحد يفكر في ترسيخ معاني الاستقامة والاعتدال ورص الصفوف، وتفادي التزاحم عند ركوب الحافلات و القطارات وسيارات الأجرة وولوج المستشفيات.. ولا عند الرغبة في استخراج وثائق إدارية أو الاستفادة من خدمات إدارة عمومية أو خاصة. لو ترسخت مفاهيم الاستقامة والاعتدال ورص الصفوف، في عقول وقلوب المسؤولين ببلادنا، لقطعنا أشواطا كبيرة في التنمية. ولقطعنا كل القطع مع أساليب الغش والتلاعب. ولتمكنا من زرع مشاتل وبذور الثقة والتلاحم بين الدولة والشعب المغربي الطيب السموح.. لو علمنا أن الرحمة تجوز على الميت وقبله الحي. وأن هؤلاء الذين يسعون إلى الحصول على الرحمة من الله، عليهم أن يرحموا من في الأرض.. لخرجنا من المساجد في نظام وانتظام واعتدال واستقامة..همنا تنقية وتطهير البلاد ولم شمل العباد..وهمنا الأكبر التأكيد على أن تلك الدقائق التي نقضيها بالمساجد ساجدين أو راكعين، نناجي خلالها الذات الإلهية. تبقى عبادة نظرية، في حاجة إلى التطبيق الفعلي. كيف السبيل إذن إلى فرض استقامة واعتدال الشعوب الإسلامية وأنظمتها، وفرض الاقتناع بأنهما يمثلان جسدا واحدا، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ؟.. كيف السبيل لكي يستوعبا أن تنمية ونهضة الدول تفرض تواجدهما جنبا إلى جنب. وأن الأنظمة تخرج من صلب الشعوب، وصلاحها أو فسادها مرتبط بسلوكات وثقافات وقيم تلك الشعوب؟.. كيف السبيل لوقف احتكار الشأن الديني من طرف هيئات ومجموعات ومنظمات سياسية واجتماعية وحقوقية.. ومحاولات الركوب على قواعده وأسسه، لتسخيرها من أجل خدمة أجندات خاصة بأعضائها ؟.. هؤلاء الذين يتصيدون الفرص والمناسبات من أجل الظهور بمظاهر العالمين والعارفين ورواد الفتاوي.. همهم الوحيد القيادة والريادة والتموقع وقضاء مصالحهم الشخصية. تراهم داخل المساجد مرشدين ومؤطرين، يقدمون النصائح والشروحات، يفرضون ما ترسخ لديهم من أعراف وعادات وطقوس وعقائد صحيحة أو خاطئة، على كل من جاورهم في الجلوس أو الصلاة أو الذكر.. ينقلون أمراض العظمة والتسلط التي أصابتهم في حيواتهم اليومية إلى داخل المساجد، حيث الأجواء خاصة بالشعائر الدينية والأسبقية للفقه الإسلامي وفقهائه. هؤلاء الذين ينتحلون صفات الأمين والفقيه والواعظ والحقوقي والسياسي والمحسن و.. يغيرون جلابيبهم بتغيير الأمكنة والمناسبات والفئات البشرية المحيطة بهم. لهؤلاء أقول: استووا واستقيموا وتراصوا واعتدلوا .. رحمكم الله.. سواء كنتم داخل أو خارج المساجد .. فإن تسوية الصفوف من تمام الفوز برخاء الدنيا ونعيم الآخرة.. أفلا تتعظون ؟؟..
بقلم: بوشعيب حمراوي