الرواية وجنسنة ثورات الربيع العربي

شهدت بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة رجة زعزعت أركان العالم العربي من المحيط إلى الخليج، وانطلقت شرارتها من تونس مشكلة صدمة لكل المتتبعين بعد التقارير الدولية التي كانت تبوئ تونس مراتب متقدمة مقارنة بمعظم الدول العربية غير البترولية. وقد كتب وقيل الكثير حول تلك الرجة التي وصفت بـ (الربيع العربي). وكان طبيعيا أن يواكب الأدب والإبداع إيقاع ذلك التحرك العربي الذي لازالت هزاته الارتدادية تزلزل بعض البلدان العربية إلى اليوم، وتنوع الإبداع بين الشعر، الغناء، الرسم، المسرح، السينما وباقي الأشكال الفنية. وتبقى الرواية من أهم الأشكال التعبيرية التي تفاعلت مع الربيع العربي والتقطت تفاصيل ذبذباته خالقة تراكما يستحق أن يكون موضوع بحث، وتكفي الإشارة إلى عشر روايات جعلت من ثورات الربيع العربي موضوعا له هي:
رواية (فرسان الأحلام القتيلة ) للروائي الليبي إبراهيم الكوني الصادرة عن مجلة دبي الثقافية 2012،رواية فرانكشتاين في بغداد لأحمد السعداوي من العراق، صدرت في  بيروت” بيروترواية (أجندة سيد الأهل) أحمد صبري أبو الفتوح من مصر والصادرة عن دار العين 2011، رواية (عدو الشمس: البهلوان الذي صار عدوا) التي كتبها الروائي المغربي لمحمد سعيد الرياحاني حول الثورة الليبية،رواية مدينة لن تموت للمصري يوسف الرفاعي دار كتبخانة، للنشر والطباعة والتوزيع 2014.
رواية (كان الرئيس صديقي) للروائي السوري المقيم بالكويت عدنان فرزات صدرت عن دار المبدأ بالكويت سنة 2012.
ورواية (ثورة العرايا) للمصري محمود أحمد علي الصادرة عن مجموعة النيل العربية 2013
رواية (الانقلاب) لمصطفى عبيد عن دار الرواق للنشر والتوزيع 2014.
رواية (ورقات من دفتر الخوف) لأبي بكر العيادي من تونس الصادرة عن دارت مومنت، لندن 2013.
وأخيرا رواية (انتصاب أسود) للروائي التونسي أيمن الدبوسي.
وإذا كانت معظم الروايات قد قاربت الربيع العربي من خلال التركيز على الأبعاد الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية وحاولت نسخ قصص يمتزج فيها الاجتماعي السياسي بالخيالي الروائي في تشريح للواقع العربي ونفسية الشخصية العربية في تفاعلها مع الأحداث، فالغريب هو أن يجد القارئ من تلك الروايات ما جنسنت هذا الربيع ولخصت كل تفاعلات ذلك البركان في الجنس تعبيرا عن موقف ما، ولم تر في ذلك الحراك إلا حراكا من أجل حرية جنسية، ورغبة في إشباع الغرائز، كما حدث في رواية (انتصاب أسود) للروائي التونسي أيمن الدبوسي، الصادرة في طبعتها الأولى عن منشورات الجمل سنة  2016 في 167 صفحة موزعة على سبعة فصول متفاوتة الحجم.
وهي رواية يحكي فيها أيمن الدبوسي الكاتب/ السارد عن مشاركته في ثورة الياسمين من خلال تجاربه الجنسية مع نساء عربيات أو أجنبيات، منهن (تسنيم/ علياء/ هيلين/ إيريس..) أو مع رجال أجانب (الفرنسي كريستوف/ اليوناني ميلتوس..) أو من خلال رصد تجارب أصدقائه في البيت الذي تدور فيه معظم الأحداث (حمزة مع فيديريكا / أيمن وشهرة…) وباستثناء الفصل السادس الذي اختار له أيمن الدبوسي عنوان (رسائل إلى أمريكا ) والذي جاء على شكل رسائل تبادلها السارد مع محبوبته علياء، تركز معظمها على ذكريات عامة وتبادل أخبار ما يدور في أمريكا، حيث علياء ورغبة أيمن في السفر إليها والاستقرار معها هناك. فشكل الفصل أطول فصول الرواية؛ امتد من الصفحة 85 إلى الصفحة 141 ــ باستثناء ذلك فإن الرواية في باقي فصولها مجرد مشاهد بورنوغرافية يتحين الكاتب من خلالها تحويل أيام ثورات الربيع العربي بتونس إلى مشاهد جنسية فاضحة ومنحطة لغرض في نفس يعقوب.
عندما أنهيت قراءة رواية (انتصاب أسود) شخصت أمامي حكاية طريفة كان يرددها المغاربة أيام الاستعمار؛ مفادها أن رجلا رأى فتاة فرنسية تأخذ حمام شمس بالشاطئ، فارتمي عليها يحاول اغتصابها، ولما استنكر عليه الناس فعله كان جوابه أن مقاوما يناضل في سبيل الوطن بالانتقام من الأعداء، وقال موجها كلامه للملك المنفي (هذه مقاومتي وهذا ما أستطيع يا محمد الخامس). وكأن كاتب الرواية بعد شعوره بفشل ثورة الياسمين، يردد عبارة (هذا ما استطعنا فعله في الثورة وبالثورة …).
إن رواية (انتصاب أسود) هي أول رواية للكاتب والأخصائي النفساني التونسي أيمن الدبوسي، والذي اختار لها بطلا شابا يحمل اسم الكاتب نفسه، محاولا من أول عمل روائي له خلق صدمة للقارئ وتنبيهه لظهور روائي جريء صاعد، يقارب الثورة التونسية بمنظور مختلف، ويقتحم ميدانا من الصعب اقتحامه وفي مجتمع لا زال التلميح للجنس يستفز البعض، وبالأحرى الوصف البورنوغرافي، وربط الثورة كحلم أمة بثورة جنسية ذاتية وبوصف تفاصيل تجارب جنسية تقف على حدود الشذوذ، وهو ما يجعل القارئ يتساءل عن مغزى هذه الرواية؟ وعن الهدف منها؟
في رواية (انتصاب أسود) تم اعتماد السرد الذاتي بضمير المتكلم، وفيها يحكي طبيب نفساني يحمل نفس اسم الكاتب (أيمن الدبوسي) لحظات من حياته أيام ثورة الياسمين التي شهدتها تونس ونجحت في إسقاط نظام زين العابدين بن علي، وهو ما يضع إشكالية تجنيس العمل على قائمة الأسئلة التي تواجه أي قارئ للرواية، لكن الكاتب أعفى هذا القارئ من الأسئلة بتصنيفه لعمله ضمن الرواية.
وعكس معظم الروايات التي تفاعلت مع الربيع العربي، يجعل أيمن الدّبوسي أبطال روايته يتحركون قي فضاءات ضيقة مغلقة ( المنزل/ المقهى/ البار..) جاعلا من الجنس بؤرة الرواية وكأنه يحاول تأكيد أنّ الثّورة في العالم العربي، لا يمكن أن تنجح بدون ثورة جنسية إباحية صادمة للموروث، وخلق تصالح بين الجسد والعقلية، لذلك منذ بداية الرواية انطلق في وصف ورصد تفاصيل العمليات الجنسية وتسمية الأعضاء التناسلية بأسمائها دافعا بتلك العمليات إلى حدودها القصوى، هكذا تلقي رواية (انتصاب أسود) بالقارئ في غياهب الشذوذ الجنسي بتخصيص مقاطع كثيرة في الرواية، قدم فيها السارد/الكاتب مشاهد بورنوغرافية مكشوفة، منها هذا المقطع الذي يصف فيه لقطة جنسية مع هيلين: ( تنحيت عن فم هيلين وباشرتها من الخلف، أقحمته عميقا في فرجها المنكشف في فحش خلاّب، عانقت المخدّة وراحت تعضّ على حواشيها مغمضة عينيها مسندة جانب وجهها على اللّحاف الأسود لتهبني كلّ خلفيّتها وظهرها مبسوط أمامي تسري فيه هزّة النّيك، وتنحدر عليه حبّات العرق كانهيار ثلجيّ). وإذا كان السارد قد مارس الجنس الفموي مع شخصيات كثيرة في الرواية، تبقى تسنيم التي تعرف إليها في حانة، وهي من أسرة غنية ابنة طبيب، هي من عرفته على المعاشرة بهذه الطريقة، لأنها كانت تنفر من العلاقات الجنسية العادية (وكل ما تحت رقبتها ممنوع من اللمس وغير موجود ) ص 11. تتميز ببراعتها وحرفيتها في هذا النوع من الجنس يقول السارد: (بنت الحرام كانت بارعة في المص.. كانت كائنا بشريا جديدا.. عبارة عن فم خارق مخلوق بثقب واحد للأكل والشرب والتبرز والمضاجعة والمحيض. إنها إسفنجة ضخمة، مضخة هائلة تعشق الأكل ومص الأيور) ص9
وهي لا تمارس الجنس الفموي إلا في هالة من الطقوس: طقوس الاستحمام ، طقوس التطيب بالأعشاب، طقوس تحضير أكلات وأشربة خاصة، طقوس شراب الشاي ، البيرة، أنواع الخمور.. يضيف السارد واصفا احترافيته: (راح فمها يعمل تارة كفرج، وطورا كشرج، ويتخذ من الثقوب هيأة الممكن وغير الممكن ويستوفي هيئة كل رطب ضيق ذي شطفز…) ص 17 هكذا تتحول الأفواه الغاضبة والحناجر الصادحة بالثورة إلى آلة لمص الأيور، ليست أفواه التونسيين فقط بل حتى تلك الأفواه التي جاءت من دول أخرى لمساندة الثوار.
وبما أن الثورة – حسب السارد قد كسرت الأغلال، وحطمت القيود المكممة للأفواه والسلوكات، فإنها أيضا أزالت الأقنعة ورفعت الحرج، ووفرت للأبطال لحظات حرية لم تكن معهودة، لم يعد الجنس من الطابوهات، بل أصبح من حق الأبطال أن يتمردوا على القيم ويقيموا علاقات جنسية جماعية دون أن يخجل أحد من الآخر، بل لا بأس في نظر السارد/ الكاتب إن عاشر خليلة صديقه أمام عينيه، ولا بأس أيضا إن ضاجعاها معا في نفس اللحظة، وأن يحتكما إليها في اختيار الأير الأحسن، وأن تفضل أير السارد على أير حبيبها وتقبل معاشرة ايمن الدبوسي من كل منافذ جسدها، وحتى إذا ما أعلن كريستوف أنه يحبها كان جواب أيمن: (جئت لتعيش الثورة يا كريستوف هذا القليل منها يا رجل ) ص 36/37 قبل أن يقنعه بأن يمارسا عليها الجنس الجماعي معا ( انظر ها قد حلت المشكلة يا كريستوف. هلين تحبنا الاثنين .. قلبها كبير يتسع لكلينا.. سنمرح نحن الثلاثة..) ص 37. ليقتنع في الأخير بما جاءت به الثورة، ويقبع (يردد في خفوت ودموعه تجري لقد كنت أحبها أحبها )….
هذه هي الثورة التي تبشر بها الرواية، إنها الثورة الجنسية التي تجعل الحبيب يقدم حبيبته لصديقه بسخاء، وتسمح للسارد أن يروي تفاصيل حكاياته دون قيود، فبنجاح الثورة انتهى عصر الطابوهات وجاء عصر البوح بالمسكوت عنه..
إن الثورة في نظر الرواية، الثورة التي كرست تناكح الثقافات والحرية بل المشاعة الجنسية، تماشيا مع المشروع المتوسطي الذي بشرت به سياسة الرئيس الفرنسي ساراكوزي! فلا غرو إذن إن تغيت الرواية جنسنة ثورات الربيع العربي وسعت إلى الموازنة بين شجاعة الثوار و(الفحولة العربية المزعومة)؛ فوجدنا حمزة يلتهم فيديريكا جنسيا ولا يدع لها أي لحظة لاسترجاع أنفاسها يقول السارد ( ونحن نسمعها تستنجد وتصيح طالبة مهلة أخرى للراحة )67 وكذلك كان أيمن في علاقته بشهرة يقول لأصدقائه (أتيتها أكثر من عشر مرات في اليومين الماضيين إلا أن ذلك لم يمنعني من أخذها مرة أخرى)79 هؤلاء هم الثوار الفحول الذين تقدم الرواية للقارئ العربي. ومقابل هذه الفحولة/ الثورية تميز أبطال الأمم الأخرى غير العربية بالتخنث والضعف الجنسي والمثلية، وهذا ما اتضح عندما حاول كريستوف الفرنسي مسايرة أيمن الدبوسي جنسيا في مناكحة هيلين.
جنسنة الثورة جعلت الرواية ترى في كل بطل غير قادر على تخطي موروثاته، وعاجز عن تحقيق الثورة الجنسية خائنا ثوريا، فلما رأى الأصدقاء أحدهم مترددا في معاكسة فتاة إيطالية بادلتهم نظرات مشجعة قالوا له: (هيا يا فتى كدت تفشل الثورة بسلوكك المتردد هذا) معتبرين الثورة تبشر بمستقبل واعد، وينذر بنهاية أوربا لذلك كان كل الأبطال الغربيين في رواية (انتصاب أسود) معمول بهم ومفعول بهم، فقد كان الأبطال التونسيون يتوخون في أحد الشبان اليونانيين فيلسوفا وريثا للفلسفة اليونانية.
كثيرة هي إذن مظاهر جنسنة ثورات الربيع العربي في الرواية، ولعل من مظاهرها أيضا المقارنة بين الثورات الغربية والثورات العربية من خلال المقارنة بين الأير العربي المختون والأير الغربي غير المختون. يقول السارد مفاخرا كريستوف 🙁 (الأير المختون أير مثقف أير بلا عقد، ليس للأير المختون ما يخفيه يا كريستوف) 33 ص، بل إنه أير غاضب والغضب هو سبب اندلاع الثورة..
هكذا تصبح للثورة أهداف غير التي سطرت لها، فلم يعد الهدف منها تحقيق الديمقراطية ولا أن يتولى أمور العباد من يستحق من ذوي الكفاءات. وإنما غدا لها هدف واحد ووحيد هو هذه الحرية الجنسية التي يعيشها البطل.
وبما أن السارد اختار أن يعبر عن الثورة بهذه الطريق تصبح رسالته واضحة، وهي إبلاغ القارئ بفشل الثورة في تحقيق أهدافها فـ(ما من انتصاب إلا ويعقبه ارتخاء) ص5. هكذا انطفأت شرارة الحماس الثوري بسرعة البرق، ولم تخلف الثورة في الشارع سوى تكدس الأزبال وفقدان العاصمة لنضارتها، واستحالت تونس الخضراء أكواما من القمامة.
في آخر الرواية يعيش البطل حالة خاصة تدخله رغبة جنونية في ممارسة الجنس وحالة انتصاب محير يختلط فيها الرغبة بالتبرز والبول والقيء. لم يجد ما يطفئ ناره – بعد عدة محاولات واتصالات بمن يعرف من النساء- سوى جارته التي اتصل بها عبر الفيس بوك ولبت الدعوة بعد أن اطمأنت لوجود خمر في السهرة، وبما أنها عذراء وترغب في الحفاظ على بكارتها لليلة الزواج في مجتمع يصعب على المرأة أن تنعم فيه بزوج دون بكارة، لم يجد ما يشبع رغبته سوى الجنس الفموي بعد أن باشرت مص أيره بطريقة شبقية.
وما أن طلع الصباح حتى انتهت الرواية وأيمن واقف على بشاعة المدينة وبشاعة وقبح المرأة التي قضى معها ليلته (أكاد أدوخ من رائحة فمها القذرة. وضوء الفجر يكشف قبحا حجبه الليل. كانت مخيفة وعاودني إحساس الغثيان وأنا أتذكر أني كنت أضاجع هذا “الشيء العذراء” ) وزاد من تأزمه فقدانه أمل الالتحاق بمحبوبته علياء في أمريكا، بعد أن قررت السفر إلى اليابان مع أحد أصدقائها الجدد، وبموازاة الفشل الجنسي، كان فشل الثورة (كنا نأمل أن تنجح الثورة بسرعة وها إنها تفشل بسرعة. جاء اغتيال شكري بلعيد ليكون رصاصة الرحمة التي أطلقت على الثورة) ليكون ذلك إعلانا بالفشل، بعد أن بدأت الثورة تأكل أبناءها ( الثورة التي طالما قالوا عنها إنها “بلا رأس” تكتشف بعد فوات الأوان أن بلعيد كان رأسها وقد خرج يشيعه إلى مرقده الأخير مليون شخص أو يزيد ولم يكونوا يعرفون بأنهم فقدوا ذلك اليوم رأس ثورتهم ) .
هكذا كانت تجليات الفشل التي أحذقت بالبطل من كل حدب وصوب، كفيلة بأن تكشف الهدف من جنسنة ثورة الياسمين. وبدل أن تشرق شمس الحرية العدل والديمقراطية التي حلم بها التونسيون، ها هي الشمس تشرق من القيء، فكانت آخر جملة في هذه الرواية تصويرا للمآل الذي آل إليه البطل، وآلت إليه تونس: ( شعرت بالقهر فقدت أملي في الحياة مرة أخرى أردت الصراخ والسباب لكني لم أستطع إلا أن أسقط على ركبتي مهزوما وقد رحت أتقيأ أتقيأ، وهناك في الخلف وراء الحشد الشامت كانت الشمس تشرق من القيء )166.
وبعد كل تلك الفحولة المزعومة ينتهي البطل في حالة أشبه بالعجز الجنسي، لا يضاهيها إلا فشل تونس في إنجاح الثورة.

> الكبير الداديسي

Related posts

Top