في ظل الوضع الذي تعيشه بلادنا في الوقت الراهن، بات من الضروري حضور تيار يساري قوي أكثر من أي وقت مضى. لكن للأسف، الأمر ليس كذلك. لقد تم إضعاف اليسار المغربي وتشتيت مكوناته بحيث أضحى عاجزا عن المواجهة وعن تقديم الحلول كما كان يفعل في الماضي. هذا التراجع لا يعني اليسار المغربي وحده بل يندرج في سياق عالمي يتسم بهجوم كاسح وغير مسبوق للنيوليبرالية فضلا عن صعود التيار الشعبوي والحركات المتطرفة التي لا تعدو أن تكون في الحقيقة سوى المولود غير الشرعي لليبرالية الجديدة.
إضافة إلى هذه الأسباب الخارجية المرتبطة بتراجع الحركة اليسارية عبر العالم، يمكن الحديث أيضا عن عدد من الأسباب الخاصة باليسار المغربي على المستوى الداخلي. أولا؛ أصبح اليسار المغربي منهكا بشكل واضح جراء مشاركته في الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الأخيرة، على الرغم من أن هذه المشاركة السياسية كانت بهدف خدمة المصالح العليا للبلاد، لكن جهود تدبير الشأن العمومي كان لها تأثير سلبي على علاقة أحزاب اليسار بالمواطنين وقربها منهم. وهو الأمر الذي جعل تلك الأحزاب تفقد قاعدة واسعة من المواطنين المتعاطفين معها الذين تحولوا باتجاه التيارات الشعبوية أو اختاروا أسوأ من ذلك الانضمام إلى تيار العزوف والعدمية.
انغماس اليسار المغربي في العمل الحكومي جعله ينشغل بالتدبير اليومي للشأن العام على المدى القصير ويهمل بالتالي التفكير في القضايا الإستراتيجية التي تسائل العالم حاليا. كما ظل الفكر اليساري متعلقا أكثر بعقيدته ومبادئه التي ميزته في عصره الذهبي. وهكذا أضحى صوت اليسار غائبا أو غير مسموع في سياق عالم يتطور ويتغير بسرعة كبيرة وفي ظل إشكالات وتحديات جديدة، هذا في الوقت الذي عرفت تيارات وحركات أخرى، وعلى رأسها التيار المتطرف، كيف تغتنم الفرصة لفرض وجودها وسيطرتها حتى ولو تطلب منها ذلك التحالف مع الشيطان.
السبب الثالث لهذا الارتداد إلى الوراء يعود إلى النزيف والانقسام الذي عانت منه مكونات اليسار والتمزق الداخلي الذي تعيشه حاليا أيضا، وإلى الانشقاقات التي حتى وإن كانت مبررة إلى حد ما في بعض الأحيان، إلا أنها لم تكن مبنية على أسس موضوعية أو راجعة بالفعل إلى اختلافات سياسية جوهرية. بل على العكس من ذلك، ظلت مرتبطة بأسباب غير موضوعية وبصراعات شخصية بعيدة عن صراع الأفكار والمشاريع. وكل ذلك لا يساهم إلا بمزيد من الارتباك والضبابية في مشهد سياسي مفكك وممزق.
بعد استعراض هذه النتائج غير السارة، للغاية، هل سنستنتج أن وقت اليسار قد انتهى ونتبنى بعض الأطروحات المتعلقة بنهاية الانقسام بين اليمين واليسار؟ بالتأكيد لا. اليسار أمامه غد مشرق شريطة استخلاص دروس الماضي والتطلع إلى المستقبل بمنظار جديد. إن السؤال يتجاوز خيار المشاركة في الحكومة من عدمها. ذلك أن القيم التي تشكل الحمض النووي لليسار لم تكن موجودة على أرض الواقع، وبالقدر الكافي، كما هي عليه اليوم. لكن لسوء الحظ، تعبر هذه القيم عن نفسها وتتطور بدون اليسار، بل أحيانا على حسابه. وهو أمر متناقض.
وبالتالي، يتم إخلاء الساحة لصالح المتطرفين من اليمين واليسار الذين يقومون، على طريقتهم، بـ “تأطير” الحركات الاجتماعية التي شهدها المغرب في الأشهر الأخيرة. وليس هنالك أخطر شيء يهدد الديمقراطية من التغيير الذي يشهده المجتمع على هوامشه!
ويبدو من المستعجل أن يسارع اليسار إلى العودة لمكانه الطبيعي. ذلك أن عليه أن يتواجد في قلب الدينامية المجتمعية وفي قلب الكفاح من أجل الديمقراطية وتحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية والمجالية. فلديه الوسائل والطريقة للقيام بذلك مع ضمان الحفاظ على المصالح العليا للأمة. ولكن يجب عليه، أولا، أن يقوم، بعزم وشجاعة، بإعادة النظر في بعض الممارسات والنظر جيدا في المرآة.
أولا، عليه أن يقوم بتحيين “زاده” الإيديولوجي في ضوء ما يشهده العالم من تطور، لجعله جذابة للشباب الذي لم يعش عصر الحرب الباردة ولا عايش النضال من أجل الاستقلال ولا المسيرة الخضراء. من بين المناضلين اليساريين، على سبيل المثال فقط، بإمكانه إعطاء تعريف واضح للإمبريالية اليوم؟ في الماضي، كان يكفينا استعادة تعريف لينين بأن “الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية”!
ثانيا، لا يجب عليه التسويف على مستوى الأداء الديمقراطي الداخلي. فلا يمكننا أن نطالب الآخر بمزيد من الديمقراطية إذا لم نكن نتوفر عليها على مستوانا. مصداقية اليسار على المحك.
ثالثا وأخيرا، على اليسار، لزاما، أن ينجح حيث فشل في الماضي، وأن يحقق الحلم العزيز على قياداته التاريخية والمتمثل في الوحدة. أي الوحدة في العمل، دون هيمنة، وفي احترام للتنوع. ولأجل بلوغ ذلك، على اليسار أن يتجاوز الصراعات الصغيرة والهامشية التي تزيدها سلوكيات الأنا تفاقما.
هو اليسار الذي تحتاجه البلاد اليوم. هذا اليسار المتجدد والذي نفض عليه الغبار والقادر على أن يشكل بديلا ديمقراطيا قادرا على إعطاء الأمل لشبابنا وتعزيز مكانة بلادنا على الساحة الإقليمية والدولية.
> بقلم: عبد السلام الصديقي