لم تعد الثقافة تتطلب ذاك الجهد الإسبارطي والسيزيفي، الذي كان ينبري له مثقف خمسينيات القرن الفائت وستينياته، وربما سبعينياته. نعم، لقد تخلت الثقافة عن سماكتها الكهنوتية، ولم تعد تطلب من الرجل الذي يعتلي منصة الثقافة ذاك الكم الهائل من المعرفة العميقة في كل المواضيع، تقريباً. ولم يعد من الضروري أن يتحرك المثقف في مناخه الاجتماعي والمعرفي، باعتباره موسوعة تمشي على أرجل. وإذا كان لا بد من توسيع مساحة النطق في هذا الإطار، فقد كان من العيب على مثقف السبعينات أن لا يكون ملتزماً بقضية نضالية قد تقوده إلى المعتقلات التي تكون قادرة، بالتالي، على تدمير حياته، وإعادة صوغه من جديد.
وقد كان من العيب على مثقف تلك الفترة أن لا يكون قرأ كتاب «رأس المال» لكارل ماركس بأجزائه السميكة، ومعادلاته الاقتصادية والفكرية المعقدة. ويتبع ذلك الدفاتر الثورية والتنظيرية لفلادمير إيليتش لينن، وباقي كل الكتب التي كانت تضخها المطابع الثورية آنذاك.
وفي الأدب، كان من الداهش أن تلتقي روائياً لم يحفر عميقاً في نتاج ديستوفسكي الروائي، أو في نتاج مكسيم غوركي الروائي، وفي مقدَّمَتًه رواية «الأم». وقد كان من الصعب، أيضاً، أن تصدق أن فلاناً قاص من دون أن يطل على كتابات غوغول القصصية، وفي مقدَّمَتًها «المعطف»، أو من دون أن يقرأ الأعمال القصصية الكاملة لتشيخوف.
وعلى الجانب الآخر كان من الصعب اجتياز مسمى أو لقب مثقف من دون الاطلاع على الثقافة الوجودية وفلسفتها، ومن دون الاطلاع على كتابات سارتر الفلسفية والروائية، أو أعمال البير كامي، ومتابعة فأر المكتبات ، الكاتب الإنجليزي كولن ولسن.
نعم، كان الذهاب إلى لقب مثقف يكلف صاحبه الكثير من الجهد الذهني والمعرفي، ولم يكن سهلاً أن تتسيد أي جلسة ثقافية أو حوارية نقدية من دون أن تتسلح بالثقافة العمبقة القادرة على حمايتك من الوقوع في الزلل وعدم اليقين.
وقد كان المثقف يتعرض لامتحانات كثيرة، وفي كل المواقع، وهو يترصد الجهات المعرفية التي تترصد خطاه، وتراقب تجربته الكتابية، وحتى الحياتية.
لكننا، وفي زمننا هذا: زمن المدونات والمواقع الإلكترونية، وتسيد ثقافة الصورة العابرة القارات، لم يعد المثقف يحتاج كلَّ تلك السماكات المعرفية التي كان يتسلح بها مثقفنا كي يُعمَّد مثقفاً. فقد صار بإمكان أي واحد منّا أن يعلن عن ثقافته بالشكل الذي يريد، وبالطريقة التي يريدها، أيضاً. ولن يجد، بالطبع، من يقارعه أو يناكفه
ومثلما تم ابتكار طريقة تناول أطعمة الوجبات السريعة، صار بالإمكان، أيضاً، التعامل مع الثقافة بطريقة الوجبات السريعة، وصار هذا يحدث من دون ردع أو ممانعة، ولعل النتائج المترتبة على ذلك سوف تقود أكثر من جيل نحو مقصلة الغباء الجماعي الذي اختصر المعرفة على هذا النحو.
حينها سوف نتلمس ملامح الكارثة، وأن ثقافة الملامسة العابرة لا يمكن أن تصنع جذورها التي تمتد عميقاً في الأرض، وأنه يمكن التعامل مع كل شيء على اعتبار أنه من فصيلة الوجبات السريعة إلا الثقافة: تلك الثقافة التي تعطي التحضر معناه الأصيل والجميل.