شكلت “الصحراء” فضاء إبداعيًا مركزيًا في الإبداعات العالمية، ولم تكن الرواية العربية بمنأى عن توظيف “الصحراء” فيها واستيحائها تخييليًا، بالنظر لما لهذا الفضاء من أهمية وقيمة وخصوصية ورمزية وإيحاءات موازية. فقد ساهمت الرواية العربية بنصيب وافر في إثراء ما أصبح يسمى بـ “رواية الصحراء”، باعتباره مغايرًا روائيًا فرض نفسه ضمن بقية المغايرات الروائية الأخرى السائدة. وتلك حركية روائية، ساهم فيها بعض الروائيين المغاربة، نظرا لما تشكله “الصحراء” في المغرب، شرقًا وجنوبًا، من مكانة اعتبارية، إنسانية وتاريخية وسياسية وجغرافية وثقافية ورمزية.
ما فتئت الصحراء في المغرب، في فضاءاتها المختلفة، تحظى باهتمام تخييلي متزايد، من قبل بعض الروائيين المغاربة، في انحدار جلهم من الأقاليم الصحراوية، وغيرهم من الروائيين الأجانب، نذكر من بينهم، على سبيل المثال، الروائي الفرنسي جان ماري جوستاف لوكليزيو، في روايته الشهيرة بعنوان “صحراء” (1980).
وفي هذا الإطار، برز الروائي المغربي محمد سالم الشرقاوي، وقد أحسن الاختيار بهذا الانزياح الموازي نحو كتابة الرواية، على نحو جعل تفكيره الإبداعي منصبًا بالأساس على استيحاء فضاء “الصحراء”، على الأقل في روايتيه الصادرتين لحد الآن: “إمارة البئر” (1) و”قدر الحساء” (2)، في خصوصية فضاء الصحراء فيهما، وفي تجلياته المختلفة والمتقاطعة والمفارقة…
وتكمن أهمية الكتابة الروائية عند سالم الشرقاوي، في كونها نابعة، في اعتقادي، من مرجعيتين اثنتين متداخلتين: مرجعية ذاتية، تحكمها طبيعة العلاقة الخاصة التي تجمع الروائي بالصحراء، باعتبارها علاقة مطبوعة بالانتماء والوفاء والعشق النوستالجي، ومرجعية معرفية ذات صلة بموضوع الروايتين معًا، في أبعادها السوسيولوجية والأنثروبولوجية والإثنوغرافية، بحيث يبدو أن الروائي الشرقاوي قد ولج غمار كتابة الرواية، متسلحًا بمعرفة واسعة ودقيقة بصحراء المغرب، في خصوصية مجتمعها، وفتنة حكاياتها وسحرها، وفي غنى موروثها الثقافي وتقاليدها وأعرافها وقيمها وعاداتها وأخبارها، بما هي، أيضًا، معرفة بطبيعة نمط العيش في المجتمع الصحراوي، في تناقضاته وصراعاته ومفارقاته، وفي تعدده وتحوله وانفتاحه على محيطه الخارجي.
في ثيمة “البئر”:
بالنظر لما يطبع روايتي الشرقاوي من ثراء تخييلي ودلالي حول “الصحراء”، واعتبارًا لتعدد المداخل الممكنة لقراءتهما، ارتأيت أن ألج فضاءهما الروائي العام، من خلال رصد أحد العناصر المهيمنة فيهما، ممثلًا في ثيمة “البئر”، في ارتباطها بالماء، باعتباره عنصرًا ثيميًا يجترح من حوله مختلف الأسئلة والقضايا المرتبطة بواقع المجتمع الصحراوي، في بلدة “بئر السبع”، في كثافة حضورها وامتداداتها السردية والحكائية والدلالية، منذ عنوان الرواية الأولى “إمارة البئر”، مرورًا بمختلف تجليات “البئر” العديدة في الروايتين معا، ومن بينها تسمية البلدة فيهما بـ (بئر السبع)، وصولًا إلى آخر فقرة في الرواية الثانية “قدر الحساء”، حيث يحدثنا السارد، في آخر جملة فيها، عن انتخابات المجلس المحلي، التي يمكن أن “تكرس محمد الشيخ الشراد، ابن القبطان، آمرًا لبلدة بئر السبع برمتها، وليس فقط آمرًا للبئر كما كان…” (“قدر الحساء”، ص247).
لقد وظفت مجموعة من النصوص الروائية العربية والأجنبية ثيمة “البئر” فيها وفي عناوينها، بشكل لافت، نذكر منها، على سبيل المثال، رواية “التبر” للروائي الليبي إبراهيم الكوني، ورواية “البئر” للكاتب الأوروغواني خوان كارلوس أونيتي، وغيرهما من الروايات…
وهذا الحضور المهيمن لثيمة (البئر)، في تداخلها بعنصر (الماء)، في روايتي سالم الشرقاوي، توازيه، في مستوى آخر، تسميات مجموعة من المناطق في “الصحراء”، في ارتباطها هي أيضا بالماء، باعتبارها فضاءات مرجعية، من قبيل: “العيون”، و”وادي الذهب”، و”الساقية الحمراء”، و”وادي نون”، و”بئر انزران”، و”بئر لحلو” و”البويرات”، وغيرها من تسميات الأماكن الصحراوية، في مكوناتها المائية تحديدًا…
ويحدث أن تتبادل ثيمة “البئر” مواقعها البؤرية في الروايتين، مع مكونات روائية أخرى مهيمنة، من قبيل ثيمة “الشخصية”، في تعدد حضورها اللافت، هي أيضا، في الروايتين معا، وفي جموحها القوي وأدوارها الفاعلة، من منطلق قدرة الروايتين على تقديم صوت جماعي فيهما، تحتل فيه “المرأة” باعتبارها عنصرًا مهيمنًا، مكانة بارزة، فقد خصها الروائي باهتمام روائي لافت، كما خصها سارده بأحاديث ميتا سردية، كما في قوله: “حضور السيدات في بلدة بئر السبع له وزنه الممتد في جذور المجتمع وتقاليد القبيلة، التي تحفظ للمرأة مكانتها المتقدمة في سلم القرار الاجتماعي، بما لا يقل عن مكانة الرجل، الذي كان ولا يزال يستشيرها ويعتمد على حكمتها وتبصرها وبعد نظرها في تسيير الأمور” (“إمارة البئر”، ص153).
كما يحضر “الشاي” باعتباره عنصرًا مهيمنًا، هو كذلك، في الروايتين، وفي غيرهما من “روايات الصحراء”، بما يخلقه “الشاي” من طقوس خاصة، وبما يولده من أحداث ومسارات وتفاصيل، في كونه يجسد، في “رواية الصحراء” عموما، “كرونوطوبا” للقاءات والحوارات…
تشكل “البئر”، إذًن، بؤرة الروايتين المركزية، في كونها شدت إليها باقي المكونات الروائية الأخرى، من شخوص وحكايات وأحداث وأمكنة وأنشطة وطقوس ومصائر، في تداخلها وتشابكها في البلدة، فـ “البئر” هي التي تؤطر “محكي السلالة”، وتؤطر أطروحة الروايتين، من حيث كونها تجسد، في تمظهراتها وأبعادها الرمزية المختلفة، تعلة تخييلية ودرامية للحديث عن مجتمع البلدة، في ماضيه وفي مستقبله، وقد دخل في مرحلة قيمية جديدة، قوامها الإخلاص والتحرر والانفتاح والاطمئنان والتعايش والاستقرار…
وكلها أبعاد شكلت، في تضافرها، إطارًا مولدًا للصراعات والانقسامات والنقاشات والقطائع بين الأهالي في الروايتين، بعد أن أضحت “البئر”، إثر نضوب مائها، متحكمة فيما يطال البلدة من متغيرات، توجه مستقبلها وتحدد مصيرها، فـ “ها هي ذي أركان الإمارة تكاد تتهدم بفقدان البئر التي أسست عليها ومن أجلها هذه الإمارة” (“إمارة البئر”، ص133).
وتتمظهر “البئر” في هاتين الروايتين، ليس فقط باعتبارها فضاء روائيًا ونواة سردية، بل أيضًا بما تلملمه حولها من قيم اجتماعية ودينية وثقافية، وبما تفرزه من سلوكيات ومفاهيم ثقافية واجتماعية وسياسية وأمنية، وبما تحققه من شهوة الحياة لدى الأفراد والجماعات، ومن شعور بالقوة والهيمنة والأمان، وأيضًا بما تحققه من إشباع سردي عن مجتمع “البئر”، والذي ليس سوى مجتمع الصحراء. من هنا، تصبح “البئر” في الروايتين، هي المكان الحاسم في تكوين حياة أهالي البلدة، وترسيخ كيانهم وهويتهم وتأصيل قيمهم وطبائعهم وسلوكاتهم…
وحسب الدكتور رشا أحمد محمود، في قراءته لرواية “التبر” لإبراهيم الكوني، فإنه كلما حضرت مفردة “الصحراء” فلا بد أن تحضر إزاءها مفردة “الماء”، وهنا تكمن أهمية “البئر” في الصحراء، في روايتي الشرقاوي، في انحياز الروائي التام إلى الصحراء، وفي حماس شخوصه للماء، ومديحهم وتمجيدهم له، من منطلق ما يمتلكه الروائي من خبرة واسعة ومعرفة دقيقة بمجتمع الصحراء، بما فيها معرفته بتدبير شؤون “الماء” و”البئر”، استراتيجيًا وإداريًا وهندسيًا واجتماعيًا ودينيًا وثقافيًا، بشكل مكّنه من استنطاق هذا الحيز المكاني (البئر) وخلخلته، بأن جعله مكانًا حيويًا مشكلًا لأصل الحياة في البلدة، من شأنه أن يشكل تهديدًا لاستقرار البلدة ووحدة أهلها (“قدر الحساء”، ص48)، خاصة وأن هذه “البئر”، التي “أقام حولها الشيخ سيدي المختار لعريبي حياة حافلة، دبت أوصالها في تلك الربوع، وأقبل الناس عليها من كل الأنحاء ليغرفوا منها ما يسد حاجتهم وحاجة أنعامهم، ليست مجرد مصدر مياه فقط، بل هي الأصل في كل شيء…” (نفسه، ص33). وفي كلام السارد ما يشي بأن “الماء”، هو الذي يشكل هبة الصحراء، ويجسد خصوصية هويتها وسر وجودها، في ارتباطه بحياة الأهالي وكينونتهم، بحيث يغدو “الماء” في الصحراء كأنه “الدم الذي أضاع لونه”، حسب إبراهيم الكوني، أحد روائيي “سرديات الماء” في الصحراء بامتياز.
بما أن الروائي الشرقاوي أراد لروايتيه معًا أن تشكلا ثنائية لمتوالية سردية (سماها السيرة والإخلاص)، في امتداد محكيهما العام بين جزء وآخر، فيبدو، أيضًا، أنه قد اختار ثيمة “البئر”، باعتبارها عنصرًا حكائيًا رابطًا بين جزأي روايتيه، وممتدًا فيهما بقوة، ومحددًا لحياة مجتمع البلدة، وهو ما يجعل “البئر” تتمظهر في الروايتين كمعادل طبيعي للحياة، من حيث بروزها كفضاء مركزي، تتأسس حوله حالات من الاستقرار واللاستقرار والصراعات والتوترات والانقسامات والتواطؤات والخلافات بين أهالي القبيلة الواحدة، فـ “الماء بالنسبة لقبيلة “أعرابات”، كما بالنسبة لقبائل الصحراء الأخرى، مادة حيوية يستحيل بدونها الاستقرار”. ولذلك، فقد أقيمت مجالس “القيطنة” لتباشر من بين مهامها “تأمين التسيير المتوازن والعادل لمخزونات المياه في مجال سيطرة كل تجمع قبلي على حدة” (“إمارة البئر”، ص 16).
على هذا النحو، إذن، تتقاطع الروايتان فيما بينهما، بالنظر إلى أن “البئر” فيهما قد مرت بعديد من المراحل التاريخية، بدءا بمرحلة شهدت ازدهار “البئر”، فسمي ذلك العام بـ “عام الخير”، لكمية الأمطار التي هطلت خلاله، فارتفع منسوب مياه البئر إلى مستوى غير مسبوق (“إمارة البئر”، ص48)، مرورًا بأحداث “عام السيل”، الذي امتلأت فيه الأودية “بسيول تحولت إلى مجار مائية قوية وعنيفة”، و”استمرت المياه تجري في هذه الوديان الجافة نحو عشرة أيام” (“قدر الحساء”، ص71)، وصولًا إلى أحوال “البئر” في البلدة وقد نضب ماؤها، لتصبح “البئر”، هنا، بمثابة حدث مركزي، يتم التأريخ به لبعض محطات تطور البلدة وتغير أحوالها: “كما هي عادة أهل البادية في توثيق تاريخهم من خلال الأحداث التي تميز أعوامهم”، يقول السارد (“إمارة البئر”، ص48)، وهو ما يجعل “البئر”، في هاتين الروايتين، تحقق امتدادًا حكائيا وزمنيا، بين ماضي البلدة وحاضرها، بشكل يضفي عليها نوعًا من القدسية والشرعية التاريخية، في امتدادها في الوجود الطبيعي والرمزي للصحراء وللبشر، على حد سواء.
وموازاة مع تنامي محكي “البئر” في هاتين الروايتين، حدث أن تحولت البلدة من حالة إلى أخرى، بعد أن انقسم نشاط الرجال فيها بين تيارين: فئة العساكر المنخرطين في أسلاك الجندية وفئة أصحاب الماشية من أغنام وإبل، الذين سيضطرهم نضوب بئرهم إلى الترحال بعيدًا، بحثًا عن مواطن الماء والكلأ (نفسه، ص113). وبذلك تصبح “البئر”، هنا، هي المحددة الأولى لمصير البلدة ولحياة أهلها، فهي “ليست مجرد مصدر مياه فقط، بل هي الأصل في كل شيء، يدين لها أهل البلدة باستمرارهم في العيش بكرامة على أديم صحرائهم الممتدة في ذواتهم وفي أشجانهم وعواطفهم…” (“قدر الحساء”، ص33)، فهي البرهان على وجودهم، والحجة على خلودهم.
فضلًا عن ذلك، يبدو “الماء” في الروايتين معًا، مؤطرًا لمواقف الشخصيات، ولأحاديثهم وأمزجتهم وأنشطتهم الزراعية والاقتصادية، ولأسمارهم وأزمنتهم ومصائرهم في البلدة، بمثل ما شكل هاجسًا حيويًا ممتدًا في تفكير أبناء الصحراء، ومعدلًا لأمزجتهم إبان تواجدهم في المدينة، لمتابعة دراستهم فيها، بالنظر إلى كون “الماء” في “المدينة”، يشكل، في الوقت نفسه، الوجه الآخر الموازي لقلق أبناء الصحراء عن استقرارهم ومستقبلهم، كما في قول السارد متحدثًا عن “سيدي أحمد”: “إنه إذا تزوج ابنة عمته (أم المؤمنين) ورزق منها أولادًا، فإنه سيسكنهم في العاصمة، وليس في غيرها، أي في نقطة قريبة من كل شيء، بما في ذلك الأمن، ورموز السيادة والاستقرار، والرفاهية، والمياه الوفيرة، فيشرب حتى يرتوي، ويسقي حتى يكتفي، ويغتسل، ويستحم، ويمنع أبناءه من التيمم نهائيا. فإذا دخلت الصلاة، قام الجميع إلى الحنفية للوضوء” (“إمارة البئر”، ص178). كما شكل “الماء” حيزًا مهمًا في الرسالة التي بعث بها “سيدي أحمد” إلى أبويه بعد التحاقه بالمدينة لمتابعة دراسته فيها، حيث أخبر والدته بأن “ماء الحنفيات حلو للغاية، حتى إنه كان يتردد، في أيامه الأولى في الاغتسال به، ظنًا منه أن هذا الماء معد فقط للشرب، بينما يوجد في مكان آخر ماء للاستحمام. ولاحظ أن عاملات النظافة يسرفن في استعمال الماء، فأصبح يخشى من أن تنفد هذه النعمة وتزول عن أصحابها” (“إمارة البئر”، ص 211)، وهو جانب يظهر مدى انشداد الإنسان الصحراوي إلى الماء، باعتباره هاجسًا حيويا ملازمًا لكينونته، أينما حل وارتحل.
أعتقد أن ثيمة “البئر” لم تحظ بمثل هذا التوظيف والدقة والإبداع الذي حظيت به في روايتي سالم الشرقاوي، وبشكل غير مسبوق في روايتنا المغربية، من خلال ما أضفاه الروائي على موضوع “البئر” و”الماء”، من تلوينات عديدة ومتنوعة، تعبيرية ونفسية وقدسية وتخييلية ودلالية، فـ “البئر” في النصين معًا، تبقى المحدد لكل شيء في الصحراء، فمتى كان فيها الماء، فهي رمز لقوة البلدة ولسر استقرارها وأمنها، ومتى انحسرت مياه البئر، تعم الهشاشة والقسوة ويبرز الصراع والانقسام وتنعدم الحياة، فتضطر فئة من الأهالي للنزوح، بحثًا عن ممكنات أخرى للارتواء.
هكذا، يصبح “الماء” هو الميكانيزم المتحكم في مصير البلدة، بمثل تحكمه في تفشي بعض المعتقدات فيها، وقد أضحت متحكمة في يقينياته، فوطأة الإحساس بالفقد في الصحراء عمومًا، تدفع الإنسان فيها، كما في بلدة “بئر السبع”، إلى التشبث بأرواح الأسلاف، لحماية وجودها، المهدد بالزوال، وهو ما جعل أهل “الرقيبة” يرحبون بالعطايا التي من بها الله على البلدة، جراء خروجهم إلى مجاورة ضريح سيدي المختار لعريبي، نتيجة ندرة الماء والكلأ، فكان من كرامات الشيخ، أن رزقت البلدة بالمطر. وهي مكارم يرى “لمغيفري” أنها جزاء لنية هؤلاء البسطاء (“إمارة البئر”، ص297).
بموازاة مع هذا، ساهمت “البئر” في خلق “رأي عام” في مجتمع البلدة، جراء ما طالها من “تغير اجتماعي وثقافي”، كان من نتائجه انقسام البلدة إلى فئتين اثنتين، بعد أن خلقت مشكلة “البئر”، في البلدة، نقاشًا ذا طابع سياسي، نتيجة شعور الأهالي أحيانًا بالغبن، جراء ما يعتبرونه تهميشًا لبلدتهم من طرف السلطة المركزية (“إمارة البئر”، ص115)، عدا عن أن “البئر”، أمام الانقسام الذي خلقته من حولها، ساهمت، هي أيضًا، في توليد أشكال من التربص والرفض والتصعيد بين أهالي البلدة، وخصوصًا بين من ينتصرون لفكرة الخروج إلى (الرقيبة) لمجاورة ضريح سيدي المختار (بزعامة لمغيفري) وبين من يرفضون هذا النزوح (القبطان منصور وابنه الشراد)، وهي انقسامات ساهمت في خلق وعي سياسي جديد لدى الأهالي، مجسدا، في أحد مستوياته، في مطالبتهم بأن “تتمتع بلدتهم بمزايا الجماعة، ويفتح فيها المجال لانتخابات ممثليها في مجلس الجماعة، بحلول موعد الانتخابات البلدية المقبلة” (“إمارة البئر”، ص116)، بمثل ما ساهمت “البئر”، نتيجة لذلك، في إحداث تحول في بنية تفكير أهالي البلدة، في تباين مواقفهم حول الوضع الذي أصبحت عليه البئر بعد نضوب مياهها، وقد “باتت مركز التداول والسجال منذ إقفالها…” (“قدر الحساء”، ص239)، وهو ما رمز إليه السارد في تساؤل سابق: “ما فائدة توفير الماء والناس على خلاف؟ وهل ستساهم إعادة ماء البئر إلى طبيعتها في إرجاع الحياة إلى ما كانت عليه قبل ثمانية شهور، وهي المدة التي طور خلالها أهل البلدة عادات جديدة في الاستسقاء، بينما يدير النازحون حياتهم في (الرقيبة) على إيقاع مختلف تمامًا عما عليه الأمر في الحي الإداري ودوار العسكر؟” (نفسه، ص84).
تأسيسًا على ما سبق، يمكن اعتبار روايتي “إمارة البئر” و”قدر الحساء” رواية واحدة متكاملة، بما تطرحه من أسئلة متناسلة ومتقاطعة فيما بين جزأيها، ذات صلة أساسًا بموضوع ذي راهنية قصوى اليوم، هو موضوع “الماء”، باعتباره سؤالًا إشكاليًا ووجوديًا مؤطرًا لفلسفة الحياة ولكينونة مجتمع الصحراء، فـ “من يتحكم في الماء، يتحكم على مقاليد الحياة” (“قدر الحساء”، ص86). وبذلك تؤسس هذه الرواية لعلاقة جديدة ومبتكرة مع “الماء”، فما تريده الشخصيات في البلدة، كما في الرواية، هو “الماء” وليس شيئًا آخر غيره، وهو مبتغى يبرزه تباين المواقف من توفير السيد “روبيرت” (وهو يمثل التحضر هنا) للكهرباء في البلدة، بما خلقته من إضاءة لأركانها، وفرص العمل لشباب المنطقة، ومن أشكال الدعم للسكان (“قدر الحساء”، ص89)، في حين لا ترى فئة أخرى فائدة في الأنوار، وأنها فقط كشفت أسرار البلدة، وتراجع بريق لياليها الهادئة الجميلة بمجرد تشغيل المحول الكهربائي الذي جلبته لجنة الخبراء الأجانب، وهم يمثلون فكر البداوة العاجز عن استيعاب صدمة “التكنولوجيا، في رغبتهم في الحفاظ على تركيبة مجتمعهم، دونما حاجة ضرورية إلى الكماليات”. وفي ذلك ما يؤكد، في مستوى آخر، ما ذكره ابن خلدون، في “مقدمته”، معرفًا “البداوة”، بكونها “إخلاص لقوانين الطبيعة التي لم تلوثها الحضارة”، وهو ما يجعل “البئر” في الروايتين، مكانًا متوترًا، ومتوزعًا بين ماضي البلدة، في وضعها التقليدي، وحاضرها، إثر ما طالها من تحولات اجتماعية…
وعمومًا، ففضاء “البئر”، في هذه الثنائية الروائية، يبقى مغلفًا بسردياته الخاصة، التي تتجاوز أبعادها الواقعية، لتغدو أفقًا استعاريًا وفلسفيًا ورمزيًا موحيًا، جعلت أهالي البلدة يعيشون، في الوقت نفسه، حالات من الهدوء والسكينة والاندماج والتلاحم، وحالات من القلق والتمرد والرفض والانتفاض، وهو ما جعل “البئر” تخلق من حولها زمنًا من التغيرات الانسيابية في البلدة، وتخلخل الكثير من المعتقدات واليقينيات والمفاهيم فيها، بما فيها تغييرها لنمط تفكير الشخصيات، في انشداد بعضهم إلى ماضيهم وفي انفتاح غيرهم على المستقبل.
وإذا كانت سرديات الصحراء عمومًا، تتأسس، في جانب منها، على “الأسطورة”، فقد تمكن الروائي سالم الشرقاوي، بما يمتلكه من حس إبداعي أصيل، من خلق أسطورة لمجتمع روايتيه، جسدها في أسطورة “الماء” تحديدًا، في تأثيرها على مسار الأحداث وتطور الشخصيات، جاعلًا محورها الأساس تلك العلاقة المرتبكة، التي أحدثها “الماء”، بين الإنسان والإنسان في البلدة.
هوامش:
1- محمد سالم الشرقاوي، إمارة البئر (رواية من ثنائية السيرة والإخلاص)، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط1، الرباط 2015.
2- محمد سالم الشرقاوي، قدر الحساء (رواية من ثنائية السيرة والإخلاص)، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط1، الرباط 2022.
* بقلم: د. عبد الرحيم العلام