تقع رواية “فرح” للروائي المغربي يوسف فاضل الصادرة عن دار الآداب في طبعتها الأولى سنة 2016، في حوالي 399 صفحة، يعيد من خلالها الكاتب تخيل ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم بالمغرب، بما طبع تلك الفترة من نشاط سياسي ودعوي وكذا بما ساد فصولها من وهن مجتمعي، من خلال العمل على تحوير حدث بانورامي تمثل في تشييد جامع الحسن الثاني، وهو الحدث الأساس الذي يقودنا بوثوقية تامة إلى عوالم نص نسج بإحكام، يتفاعل فيه التاريخي بالأدبي، والمتخيل بالواقعي. ويعكس طاقة المروي وإمكاناته في إعادة التأريخ وقراءة التاريخ من جديد.
ينهض المروي أساسا على سيرة شخصيتين رئيستين، تلاعبت الأقدار كما الصدف بمآلها. شخصية عثمان، وهي التي تولت فعل السرد في قطاع يسير، تحكي فيما يشبه النوستالجيا عن تفاصيل معيشها اليومي بمعية أسرتها التي نشبت فيها نيران الحاجة وعجت بالمتناقضات، كما تحكي عن كل الأشياء التي كانت علاقتها بها مرهونة بمدى فهمها لها.
قبل أن يصبح عثمان مقعدا ينتظر خلاص زوجته من تأوهات حملها. يحفر في ذاكرته بعيدا آخذا بال القارئ صوب حكايته مع صديقه كيكا، ومع فرح قدره الذي ظل ينتظره، ومع والده رمزا للخفاء والتجلي. ومع أختيه حبيبة وخديجة، ومع صهره عبد الله زوج حبيبة..
أما الشخصية الثانية “فرح” وهي مركز الثقل في النص، فهي الفاتنة الهاربة القادمة من أزمور صوب الدار البيضاء، ملاحقة حلمها وهو الغناء، ظلت تبحث عن صديقتها نعيمة، وفي رحلة بحثها تصادف عثمان، تاهت خطاها حتى تأكد لها أنها تلاحق السراب، فقدت مالها وغاب عنها المحامي الذي طالما بقيت تنتظره. وظلت تتأرجح بين الحضور والغياب، حتى لفظت أنفساها الأخيرة، ولم تترك وراءها سوى وشم طبع ذاكرة عثمان واستفزها حتى أطلق عنان المخيال وظل يروي ويروي بلا توقف.
وبين كل أطراف المرويات، يحضر فضاء مرجعي كمحط تجاذبات للمواقف والقيم، وهو مسجد الحسن الثاني بمحمولاته التاريخية والرمزية، إذ يمكن عده بمثابة وتد لا يستقيم المحكي من دونه، وكنعش يدق في مخيلات كل الشخصيات، شاهدا على وضعها وانفعالاتها، حيواتها وموتها، مآسيها وأفراحها، منذ مرحلة الشروع في تشييده إلى حين إعلان خلاء الحي المجاور له.
هكذا ترتمي رواية “فرح” ليوسف فاضل في أحضان محكيات متوازية لعل أكبر ما يسمها هو الاعتقاد والإبهام، حين تخوض في تفاصيل الهامشي وتدقق في اليومي المعيش، معلنة لا نهاية المروي. من خلال إنعاش التاريخ المغربي، وبواسطة الاشتغال على الذاكرة من بعيد، قريبا من الأصيل والشعبي، بعيدا عن الحديث والمستحدث، في عالم حكائي تسوده فوضى التفاصيل، وتغلب عليه ترنيمة الشك، وتنتهكه الأسئلة دون أن يكلف توليد السؤال قطاع المحكي، عناء الإجابة ولا تكلفة الكشف والبوح.
لا شك أن الخطاب حينما يصل درجة بالغة التعقيد في إنتاج “الباروديا”. يولد السؤال ويكبح جماح الإجابات. يظهر ذلك جليا في خطى السارد المتثاقلة، وهو يرقب عن كثب وضع النشاز الذي يحياه ضمن نسيج من العلائق الإنسانية التي ينخرها التشظي. وإزاء اصطدامه بهذا التصدع، تعمقت وحدانيته فأضحى هاضما لمأساته مبتلعا لحيرته. سيما بعد لقاء فرح، الفاتنة القادمة من أزمور لتحترف الغناء، لكن ثقل الزمان أطفأها في أيام حالكة بمدينة كبيرة كالدار البيضاء، فأضحت الجوهر المفقود الآخذ في جدل الحضور والغياب.
يظهر السارد وله حكاية يعبث بها النشاز، فلا تصبح ممتلئة إلا في مرآة يرى من خلالها حكايات الآخرين، يغيب نفسه باستمرار فيزيقيا وسيكولوجيا، معلنا فراغه الأكيد، من حيث كونه غير محتضن لأية علامة، إلا فيما يربطه من خيوط شائكة مع مجاري حكايات تنعكس مرآويا عليه، وتلك خاصية أسلوبية متفردة تعمل على صناعة مزية للتخييل وتؤسس لمتخيل يهدم الأنا بأناه، ويقوم بإعادة بنائه عبر انشغاله بتفاصيل الآخرين.
نلمح هذا المتح العميق من ذاكرة الإنسان المغربي وتراثه، كما نلمس ذلك التأمل المضني في وعيه الجمعي وما يحفل به من كل شيء أصيل وتراثي. من حيث كون النص لا يكف عن دغدغة وكشف لاذع وساخر للطابوهات المجتمعية وللمستور في الأنساق الثقافية، يمتد السرد ويغوص في إداناته لكل صور القبح ومظاهر الشذوذ ولأخطبوط القيم الفاسدة الذي راح يتداعى، وفي هوامشه يظل السارد باحثا عن الجوهر المأمول.
بيد أن اللافت للنظر في المروي بشكل خاص، هو بلاغة الخوض في التفاصيل، كل التفاصيل وبشتى طرائق الاشتغال الفنية في السرد.
يبرز بجلاء أن خاصيات، من قبيل الهيكل الروائي والتفكير الاستعاري وانسياب اللسان العامي وجرأة الكشف، كانت كلها استراتيجيات عملت على رسم صورة جمالية لإيقاع التفاصيل في رواية “فرح”، إلا أن الواضح حين التأمل في طياتها أن ثمة عناصر أسهمت إلى حد بعيد في تفكيك الكلي، وبشكل دقيق في إغناء البعد الاستيتيقي للالتفات السائر نحو التفصيل.
نطمح إلى الإحاطة بجوانب من جمالية هذه التفاصيل في هذا المنجز الروائي من خلال مقاربة المستويات الآتية:
شعرية التفاصيل (تقاطعات الواقعي والمتخيل)
ثمة في رواية “فرح” نوتة تصدح فعل التلقي لتزج به في شرك المشترك الذي انصهر معه الواقعي في التخييلي، فالحكاية بمجرد ما ترسو بميناء النص تصبح كسفينة بشراعين، حينا تجري مع تيار الواقعي والمرجعي، وحينا آخر تعاكس هذا التيار، معتنقة رحاب التخييل في آفاق رمزية واعدة. وفي شكل جدلي راح معه السارد يصور قداسة الرموز وجبروت السلطة، في مجتمع لم تلتئم فيه جراح الحاجة المدوخة ولم تسكت فيه صرخات الرغبة. ويستمد الموضوع طاقته من المرجعية التاريخية والسياسية ومن القدرة على استثمار المتخيل التاريخي وتطعيمه بممرات التفصيل في براديغم سردي، يسمه البذخ في المروي ويقويه الثراء في التجزيء.
من الأفيد القول إن ما ساهم في ذاك النزوح البليغ نحو التفاصيل هو مزاوجة المنجز الروائي هذا بين عالمين: عالم إنساني يخترقه المألوف، ويصب في الكسموس الإنساني. وعالم حيواني يجنح نحو التخييل في سرية سردية، تحاول الكشف عن القرابات بين العالمين معا، قرابات تفضح الكائن وتتخيل الممكن، وقد أتاح الوصف والمونولوج تخوما كثيرة للتوغل بعيدا في تفاصيل الواقعي الإنساني والمتخيل الحيواني.
يقع السارد على أدق الجزئيات، يلتقط الأشياء والأحاسيس والأفكار في مشهد متناسق، تطلع منه بذرة المعنى ولا تكف عن النمو. يصف كل شيء، يلامس أتون العناصر ويفجرها في أسلوبية تكسوها الدلالات من شتى الجهات. إن هذه الممارسة الوصفية وجعلها تترنح في أرجوحة من المعاني، تجيء إيابا وذهابا بذائقة المتلقي، هو ما أضفى على هذا النص بعدا جماليا، بحيث لا تصير تلك التفاصيل إنشائية محضة، تعمل على تعطيل السرد، بقدر ما ترسم مشهدا متناسقا عامرا بالدلالات.
* توليد السؤال والارتهان للشك.
يبدو إيقاع النص مثقلا بالسؤال، مشحونا بالاستفهام، وهذا واضح في لمحة بصرية لهذا المنجز، بيد أن هذا الاستفهام لا يقود إلى امتلاك أجوبة شافية، إنما يقود نحو الارتياب الذي ينحو منحى التفتيت والتشريح بحثا عن الدلالة الثاوية خلف الخطاب والمنفتحة على التأويل. وهنا تصل التفاصيل مداها فتتردد الشكوك، ليحبل النص معها بكثير من الاعتقادات والاستطرادات، لا واحدة منها حقة، فيعمد السارد إلى التدقيق في الأشياء وفي الشخصيات وفي الأمكنة، حتى يلامس فروة الدلالة عبرها ومن خلالها.
* المستمر، اللا متناهي وأفق القراءة.
اللافت للنظر أن ستارة الرواية لم تسدل ويصبح كل شيء مشرعا على القراءات، فبعد موت “فرح” شهدت الحكاية ميلاد “فرح” من جديد، كأن في الممات حياة، هكذا يعمل النص على توسيع آفاق القراءة من خلال انفتاحه على كل التأويلات المتاحة، ويخلق لشرعية أنطولوجية تمخضت من رحم المعاناة. في لوحة تحتفي بالأصيل وتنبش في التراث وتتمسك بالحياة رغم كل المآسي.
كيكا لا زال يعيش على وقع أحلامه وخديجة لا زالت تهذي وعبد الله لا زال متوغلا في آثامه، والمسجد لم يدشن في وقته، والبناء لم يكن تاما، بل ظهرت في سقفه الشقوق.
إن العمل على ترك المرويات مشرعة من دون نهايات محددة. إنما للإشارة إلى البحث المتواصل عن القيم الحقة، ذلك أن كل شيء انطلق في الرواية زائفا وانتهى زائفا إلا حقيقة موت “فرح”، ودونها تظل كل تلك الحيوات في صراع أبدي تتخلله مسحة تفاؤلية محتشمة.
صفوة القول إن أرقى ما وسم إيقاع الاستمرار في مضايق السرد هنا، هو التواءات المحكي تلك التي تظل قابعة ومجردة، لا تكف عن اختبار الاجتماعي في مجهر المعاينة، ووضع القيم في محك الحقيقة، للتعبير عن بحث متواصل قوامه انتفاء النهايات.
> بقلم: محمد أيت أحمد