“مجد الجميع مهارة هذه الشابة المغربية التي عانقت إيميلي لتزيل عنها هاجس الخوف بحقيقتها المرة قائلة:
لا عليك إيميلي، إن عودتك إلى الحياة ليست معجزة، فقد عدت بدوري من العالم الآخر، رغم أن الاختلاف الموجود، حبيبتي، بيني وبينك مرتبط بنوعية الأحداث وظرفية الزمان والمكان ونوع الناس”(1).
خلف استحضار مثل هذا المكون الطبيعي والذي هو الشمس، كي تتمحور عليه أحداث ووقائع رواية كاملة، من ألفها إلى ياءها، أكثر من دلالة تختزلها الحكمة القائلة بجود هذا العنصر على رمزيته وجوهريته وفضائله الكبيرة على الطبيعة والبشر.
فالشمس باعتبارها النجم المرعب والجحيم العملاق في كوننا الفسيح، نجدها أيضا، من جهة أخرى،تشكل نواة للنور والجمال.
إن معالجتنا لهذا العمل الروائي الباكورة لمبدع فضل أن ينقع في منجزه عصارة عمر من التجارب، دونما استسهال أو ارتجال، كأنما يضعنا أمام سيناريو محمكم ومنتظم الفصول وجدّ محبك، يترجم سادية الواقع التي قد تصبغ التحولات الزمكانية، وتلازم الكائن ملازمة الظل للغصن.
“مرقد الشمس” ليس مجرد عتبة أو اختيار عابر، بل صفحات تاريخ مضطرب يطبّع مع حقبة طبقية أو إقطاعية على نحو أدق، كي يُشعرنا بحجم الخيبة والتفريط برهان الفكر التنويري والتقدمي والحداثي الذي أخلفنا الموعد معه وتركنا أمما أخرى تسبقنا إلى رحابه.
بيد أنها تظل جاهلية مقيمة في معاني وجودنا وهيتنا حتى الآن، رواسب نسوّف القطيعة معها ونعجز قبالة فخاخها، بما يدفعنا إلى الفجاجة والترهل وإساءة فهم ماضينا، وعدم التحلي بمقاربات جديدة لمخبوء الذاكرة ونثارها.
مع أن هذه السردية باكورة إلاّ أن مؤلفها حاول قدر الإمكان، وإلى أبعد الحدود تفادي اعتباطية الخطى ضمن فضاءاتها، فلاح متمكنا حدّ الدهشة والامتاع،متحّكما بشخوصه، نورد مثلا لذلك، تغييب حقيقة كون هبة ابنة حاوية القمامة والتي كفلتها الحاجة حليمة،وقد شكل ذلك الحدث منعطفا تاريخيا خطيرا في حياتها، كلفها التضحية ببعلها الحاج أحمد، وتسبب بطلاقها من هذا الأخير.
قلت هي حقيقة أخفاها السارد عن صاحبة الدور البطولي الأول بين شخصياته، الحاجة حليمة، ووضعها في علم المتلقي قبلها، لحين تلقينها بعض الحقيقية من طرف نانا يطو.
كما أن استهلال الرواية بمقتطف من فكر وفلسفة ألبير كامو، والدال على أن الوظيفة الإبداعية ليست إصلاحية بالأساس، لينم عن ارتكاز المنجز وارتكانهإلأى النبع العرفاني الصافي المدغدغ بأرق ومكابدات الإبداع المتحقق عبر غربلة الحقائق قبل تلوين الصفحات بها.
من هنا يمكننا النفاذ إلى ما ورائيات عوالم هذه السردية،وفق سياحة جوانية عميقة، في أبعاد ثلاثة لا أكثر، نضيء من خلالها جوانب عتمة الذات والحياة داخل حدود جغرافية تصل سهوب الغرب وجبال الأطلسي بالجارة إسبانيا والحورية القابعة ما بعد تخوم مرقد الشمس، هذا مفهوم طالما اختمر في عقلية هبة وتقمّص تفكيرها منذ انتشلت من حاوية القمامة إلى أن أصبحت طفلة جميلة فمراهقة متقدة الذكاء تتطلع إلى الأفضل في ما وراء دهاليز مدينة كبيرة بحجم الدار البيضاء مرعبة ببحرها وأسرارها، فدكتورة يُشار إليها بالبنان داخل وطن موغل في الحضارة والتقدمية والازدهار،مثل كندا.
“مرقد الشمس” بما يحمله من منظومة مفاهيمية ترعرعت في ذهن هبة عمرا كاملا، وتبعا لدورة هوياتية جعلتها تضحى بالكثير من أوجه البذخ والانتصارات المادية، لتقدم سائر ذلك قربانا، مقابل خدمة وطنها بكل أمانة ومسؤولية، كي تختم الرواية بطقس فجائعي، طلاق هبة من أخ مربيتها الحاجة حليمة، خريج اللغة الإنجليزية ياسين، في الوقت الذي اعتقدنا فيه أن الراوي يقود متلقيه إلى اصطدام مخملي بنهاية سعيدة تلتئم لها ذاكرة سادية الواقع في أفق هذا الثالوث الهوياتي،وما يشهده الكائن في تلك الكواليس، من تمزقات وانفصامات وتعدد في الشخصيات وهزائم ومفاضلات ومفارقات رهيبة.
لسوف نقارب هذه السردية من خلال دوال تأويلية ثلاث، كالآتي:
الدال النفسي
إن مناولة الروائي المغربي إدريس بوبكر هذه، لتطغى عليها الحمولات السيكولوجية ،كأنما العمل انبثاق من مدرسة دوستويفسكيالعميقة،بذلك اكتسبت أهميتها وقيمتها الأدبية والسردية والتاريخية بدرجة أولى.
فمذ مراحل السرد الأولى ، تحاصر القارئ تجليات راهن القمع وقساوة الحياة وجلْد الظرفية.
قرية متخلفة في قمة جبل معرضة لكافة التغيرات المناخية ووحشية الطبيعة التي تضع على طرفي نقيض النرجسية والغيرية، فبقدر ما يرها أهل هذه القرية البائسة ، رقعة من جحيم تُمارس عليهم في متاهاتها كافة أضرب الاستعباد والاضطهاد والفاقة الحرمان والجهل، كما الطاعة والتبعية العمياء والخضوع لشيخ هذه الجغرافية القاهرة باسو، هي أيضا وجهة محببة للسياح الأجانب وفردوس لإطفاء كبتهم وإشباع أحلامهم.
مفارقة عجيبة حقا،تعكس خلل الانتماء،وقهرية وجور التراب.
من نسل شيخ القبيلة باسو، بأكمله، يوجد فقط بكره أحمد كرمز للنقاء والإنسانية ومناهضة الفكر الإقطاعي الذي جسّدته هوية والده هذا الطاغية والمتنمر، مختزلا الثقافة المخزنية التي جنت طويلا على مصالح الناس والوطن.
الدليل أن أحمد أراد تذويب هذا الفارق الطبقي، عبر زيجته من حليمة المنحدرة من أسرة نخر كيانها العوز لأجيال متعاقبة عديدة، من خلال اقترانه بها، وحدث أن تزوجا وحجّا عاشا حياة سعيدة قبل أن تعصف الخيانة المدبرة والغل الأحقاد والجهل وإملاءات العقليات المتحجرة، بهذا المكتسب في محاولة رسم ملامح جديدة لكائنات قرية جلدتها الطبيعة، قبل سادية شيخها المتجبر باسو.
الدال الجغرافي
إن اتّخاذ جيل ما قبل باسو، أي الأجداد، من الجبل، ملاذا من الهجمات الشرسة للأعداء، في صفحات تاريخ دموي مديد، شاهد على همجية الحروب والتطاحنات القبلية السائدة آنذاك، لم يك اختيارا في الأصل، إنما هو أكراه طبيعي وهوياتي عقبه ما عقبه من تحديات دفع ضريبتها الكثير من آل أوراس وآل باسو ، بعدّهما أكبر معسكرين طبعا بحضوريهما كهذا صراعا ثقافيا ووجوديا وطبقيا بالأساس.
فالتهديد الوحيد لغطرسة وجبروت شيخ هذه القبيلة الأمازيغية المرابضة في قمم الأطلسي، تمثل في المتمرد زايد، الذي تحدى باسو وأهانه على الملأ ،وأمام دهشة وانبهار الجميع، ليلبسه هذا السادي التهمة تلو الأخرى زاجا به في السجن، بين الفينة والأخرى، إلى أن يلقى حتفه فينتهي مطعونا بخنجر أمازيغي أصيل، وعلى يد متحدّيه زايد، مشكِّل المفارقة والأكثر جرأة ،مناهض المذلة والظلم والاستكانة والخنوع، البطل الوحيد على الأرجح الذي لم يتلون في أقنعة انتمائه.
لذا أنصفته أحداث الرواية انتهاء، بزواجه من رجاء، عشيقة علي ،إكراها،أم هبة، أخت بقال أحد أحياء العاصمة الاقتصادية عبد الرحيم، الذي سهل للحاجة حليمة انتقالها إلى مدينة البيضاء بعد طي الصفحة مع أهل قريتها والنأي عن عش زوجيتها،لحظة أفتى عليها ضميرها الحي انتشال هبة وهي بعد مضغة متخبطة في مزيج من الأمشاج والدم ،انتشالها من القمامة في مشهد درامي، ما بعيد ولادتها بساعات،وتحت ظرف شنيع صنع والدها الزير والمعربد،علي.
بحيث لم تنظر إليها المربية كلقيطة، بل كضحية لمجتمع لطخته مخزنية آل باسو القاهرة واستعباد البرايا.
الدال الإنساني
وهي الصيغة المصححة لتاريخاينة الأخطاء الآدمية، والداعية إلى مأدبة الإنساني المتشاكلة ضمن سرمدية آفاقه القواسم المشتركة العديدة.
فما يجمع ما بين فاطمة بنت محمد أوراس و أحمد بكر الشيخ أوباسو، ليس ثيمة نابضةبالحب فقط، إنما هي تجليات للمشترك والنزعة الإنسانية، على نحو لافت.
الشأو ذاته بالنسبة للثائر زايد، مغتال باسو،في جديد علاقته برجاء أم هبة، الثائر التي أكرهت لأعوام أن تكون مومس علي وعشيقته في ظلمات كهف نائي مهجور.
الغرض ذاته بالنسبة لهبة دكتورة أمراض القلب والشرايين في علو كعبها، بتوليد نظريات علمية جديدة تحدد نظرة البشر إلى نجم مجرتنا الأول: الشمس، أعطت ثمارها العلمية الكبيرة في هذا مجال الطب ،في علاقتها بشقيق مربية هبة الحاجة حليمة،ياسين، بصرف النظر عن قصة انفصالها انتهاء، ولو أنه، أي ياسين، استسلم للحلم الوردي الأوربي، أخيرا، فآثره على العودة إلى الوطن الإقامة فيه والاسهام قدر المستطاع في ازدهاره وتطويره ومنحه روح التقدمية، وضخ دماء العدالة والحرية والانصاف في شرايينه، بعد مراحل وأشواط من الرجعية والتخلف والنكسات والانحطاط.
خلاصة القول أن هذه السردية، أعطت لأحداثها كما شخوصها تنوعا وتعددا، تجلى في تلوين أقنعة الخطاب والحضور، مثلما جابهت وبشراسة، منذ لحظة إماطة الستار عن أولى فصولها، من واقع السادية، مرجحة حس الانتماء، مثبتة كيف أن الوطن إنما يُبنى ويتم تشييد دعاماته، بالمراهنة على الرأس البشري وفي آفاق عدالة جغرافية، وحيّز أكبر من الحرية الراعية للجهود والمشاكسات التي قد تولد من رحم المعاناة ومن صلب ملاحم المآسي الوجودية الكبرى.
فما سبق وأشرت، مع أن هذه السردية لا تعدو تكون باكورة روائية، حاول أن يلتمس من خلالها المبدع المقتدر إدريس بوبكر، ملامح تجربة تتماهى مع واقع تناغم مكونات الهوية المغربية المتنوعة والثرية، تبتكر في الشكل المتن لتضيف إلى السرد الوطني العربي إجمالا، إلاّ أنها أبانت عن حرفية إبداعية بالغة في تشخيص أوبئة واقع شبه معزول تبصمه السادية، مثلما حادت بشكل جلي عن الإغراق في الأحكام التي قد تشّوه السرد وتذهب برونق خطاباته.
“ولذلك فسخت عقدة زواجها معه وعادت أدراجها إلى المغرب وهي تقول:
لا شيء في هذا الوجود يعيش من ذاته
الشجر لا يقتات من ثماره
والبحر لا يأكل حيتانه
حتى غرة الشمس لم تشرق لتضيء عن ذاتها…
كل الأشياء لم تُخلق لتخدم نفسها وإنما خلقت لتخدم غيرها.
ليس لي شيء أخدمه في حياتي غير الوطن وحليمة ورجاء وما عدا ذلك فإلى…”(2).
هامش:
(1) مقتطف من الرواية، صفحة182.
(2) مقتطف من الرواية، صفحة 253.
< بقلم: أحمد الشيخاوي