التفاؤل مفيد، حتى ولو كان مخادعا، لأنه يساعد على إنتاج هرمونات تقي الجسم من مضار الاكتئاب. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب سوف يخسر الانتخابات ويحل محله جو بايدن. ويمكن لمنسوب التفاؤل أن يرتفع إلى درجة أن وزير خارجيته قد يكون بيرني ساندرز، أو إليزابيث وارن. بمعنى أن جناح “التقدميين” في الحزب الديمقراطي هو الذي يمكن أن يقود السياسة الخارجية الأميركية. وهذا الجناح أكثر ميلا لحل “عادل”.
والرئيس بايدن سوف يلغي “صفقة ترامب”، ليبحث عن صفقة أخرى. وسوف لن يرضى بضم أراضي الضفة الغربية وغور الأردن كما يرغب بنيامين نتنياهو. وقد يدفع باتجاه استئناف المفاوضات.
ومع رحيل سلطة ترامب، سوف يرحل الدافع لرفض أن يكون للولايات المتحدة دور قيادي في إدارة مساعي السلام. كما أن البعثة الفلسطينية في واشنطن سوف تستأنف أعمالها، ويُعاد تمويل الأونروا.
باختصار، أربع سنوات من عالم السياسة الترامبية سوف تشطب من التاريخ، إلا ما تنفذ منها طبعا. ومن ذلك نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
سوف يجلس بايدن على مقعد باراك أوباما حيال القضية الفلسطينية. هذا أقصى ما يمكن للتفاؤل أن يذهب إليه. فانظر إلى ما أسفرت عنه سلطته لـ8 سنوات، لترى ماذا يمكن لبايدن أن يفعل في السنوات الأربع أو حتى الثماني المقبلة.
عمليا، لا شيء! لا سلام، ولا عدل ولا تسوية نهائية، ولا هم يفرحون.
إرث أوباما، هو ما سوف يبني بايدن عليه. وهو إرث إفلاس فعلي. لأنك، وأنت ترى كيف مضت تلك السنوات، ستعرف كيف سوف تمضي غيرها.
من السهل طبعا القول إن هناك لوبيات تتحكم بقدرة الإدارة الأميركية على فعل أي شيء يتعلق بإسرائيل. ولكن هناك شيء أهم. وهو أن إسرائيل أرست قاعدة، ليس في العلاقة مع أي إدارة أميركية، بل ومع أي حكومة أخرى في العالم، وهي أن أحدا لا يملي عليها شيئا لا تريده. وهي بذلك تملك الحق، ليس في أن ترفض العروض فحسب، بل وفي ألا تكون عُرضة للضغوط بشأنها أيضا.
هذه قاعدة راسخة الآن. كما كانت راسخة من قبل. وأوباما لم يتمكن من أن يحرك قشة لم توافق إسرائيل على تحريكها. وظلت عملية السلام جامدة بينما واصلت إسرائيل أعمال الضم وبناء المستوطنات، وغير ذلك من الأعمال التي أفرغت كل محتوى السلطة الفلسطينية وحولتها إلى ذلك الشيء الذي وصفه صائب عريقات نفسه “جمع القمامة”.
وبايدن يعرف ذلك جيدا. كان قريبا للغاية من كل شيء، بحكم كونه نائبا للرئيس، ليعرف الآن ما هي حدود قدرته عندما يُصبح رئيسا.
انتظار الأمل من بايدن، بهذا المعنى، ليس سوى انتظار للوهم.
نحن نقول، ولكن قلما نؤمن بالفعل، بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وأول التغيير هو التخلص من أوهام انتظار أي أحد في العالم. فحتى ولو كان العالم يرى أن إسرائيل تمارس احتلالا ظالما، وطغيانا وحشيا يقهر الملايين من الفلسطينيين، وأعمالا إجرامية بلا انقطاع، فهو عاجز عن أن يفعل شيئا. ولا حاجة لإدانة الضمير العالمي. فهذا مما لا علاقة له بشيء. والسياسة في الغرب بلا ضمير، أصلا.
عندما جاء وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان، في عز أزمته المالية، وفي عز رغبة فرنسا في أن تمد له يد العون، فماذا قال للجياع اللبنانيين ولحكومتهم؟
قال “ساعدوا أنفسكم، لكي نساعدكم”.
وهكذا، فما لم يساعد الفلسطينيون أنفسهم، فلن يساعدهم أحد.
التغيير الحقيقي، هو ما يفعله الفلسطينيون بأنفسهم في مواجهة الاحتلال والظلم والطغيان. وليس ما يفعله الآخرون. فإذا رضيت بالظلم، ولم تنتفض ضده، فأنت تستحقه.
يجب أن تقتنع إسرائيل بالتفاوض لكي تتفاوض. ويجب أن تقتنع بأن احتلالها للأرض الفلسطينية يلحق بها الضرر. كما يجب أن تقتنع بالانسحاب لكي تنسحب بالفعل. المفاوضات هي نفسها فعل تال على القناعة وليس العكس.
السؤال الذي يواجه الفلسطينيين، وليس سلطتهم فحسب، هو: ما الذي يجب أن يحدث لكي تتوفر القناعة لإسرائيل، بأن التخلي عن الأرض هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام؟
يملك الفلسطينيون الكثير من الخيارات في الجواب على هذا السؤال، إلا أن أكثرها فاعلية هو ما ثبتت جدواه من قبل.
إسرائيل لم تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، ولم تتفاوض معها، قبل الانتفاضة الأولى، ولم تنسحب من غزة قبل الانتفاضة الثانية، ولن تنسحب شبرا من الضفة الغربية قبل الانتفاضة الثالثة، ولن تتحول السلطة الفلسطينية إلى سلطة حقيقية قبل الانتفاضة الرابعة، ولن يحل السلام بالفعل قبل الانتفاضة الخامسة.
الحقيقة هي أن الصبر الطويل والاستئناس إلى الموقف الدولي يوفران لإسرائيل الفرص لمواصلة سياسات القضم التدريجي للأراضي الفلسطينية، والتدمير المنهجي لمعنى وجود دولة فلسطينية، ويعززان موقفها التفاوضي، عندما تعود لتكون هناك مفاوضات. ومثلما أضاع صبر ثلاثة عقود على تنفيذ اتفاق أوسلو الكثير، فإن المسار واضح تماما لما يمكن أن تنتهي إليه العقود الثلاثة المقبلة. وخلصنا. لا دولة فلسطينية من بعد ذلك ولا حقوق للشعب الفلسطيني ولا أي شيء مما يمكن للفلسطينيين أن يأملوا به.
ويقول الواقع ما يكفي. فمشروع ضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن، قائم، ومتواصل ولن يتوقف. سوى أنه يُنفذ من دون ضجيج. ويُقابل من دون ضجيج أيضا، كما لو أن ثمة توافقا ضمنيا يسمح لإسرائيل بأن تواصل ما تريد، وتبتدع بدائل تكرس الحقيقة ذاتها، بينما تظل السلطة الفلسطينية تراهن على ما تراهن عليه.
ولسوف يقال إن الظروف الراهنة، كورونا وغيره، لا تساعد كثيرا على تغيير المنهج، إلا أن ذلك غير صحيح. ولكن ليس لأنه يقضم الوقت، بل لأنه يستند على التعويل الخارجي ذاته. فطالما كان ظل الخارج مشغولا بشيء آخر، فإن “الاسترخاء هو الحل”.
والخارج لن يكف عن مشاغله. والأزمات الأخرى سوف تظل تندلع. وكورونا لن ينتهي كخطر داهم قبل عام آخر من الزمن. وقد ينشئ وباء آخر. الأمر الذي يُنشأ نوعا من دورة مضيعة حقيقية للأرض قبل الوقت.
صمود الفلسطينيين لن يتزعزع. هذا بديهي، ولكنه قابل للقضم ما لم تتوفر له عوامل التجديد. واليأس إذا بدأ يدب في النفوس، فإنه لن يفتح الباب إلا للكثير جدا من الأمراض الداخلية. وهذا خطر جسيم. تأمل فيه وستجد أنه هو الفصل الأخير.
ذلك الصمود هو نظام المناعة الوحيد. فإذا لم يتجدد، وإذا لم يتغذ بالمزيد من الدوافع، وإذا ما تداعى، فإنه سوف يفتح الأبواب على الجحيم.
ولمن يقرأ الملامح من بعض الإشارات التي تصدر عن الطبيعة المتفسخة للحياة العامة في المدن والبلدات الفلسطينية، يمكنه أن يُدرك تماما ما سوف يأتي.
الانتفاضة، مطلوبة أيضا لنفض تلك الملامح، وتنظيف الدار، مما تراكم فيها من تفسخ.
إذا كنت ممن ينتظرون التغيير ليأتي على يد جو بايدن، فانتظر. وإذا كنت ممن يتفاءلون بصحوة الضمير العالمي، فتفاءل. إن التفاؤل مفيد. هرموناتك سوف تتغير، ولكن ليس الواقع.
> بقلم : علي الصراف