يتناول كتاب «مقدسات ومحرمات وحروب: ألغاز ثقافية» لـمؤلفه «مارفين هاريس» بعض من الأعراف المحيرة بين الشعوب الأمية أو البدائية، والتي تبدو ألغازا عصية على الحل، بل وتحيل على الجهل والخوف والتناقض كعناصر أساسية تشكل الوعي اليومي.
امتناع الهندوس عن أكل لحم الأبقار، أو كره اليهود، والمسلمين، أو لماذا يؤمن بعض الناس بالمخلصين بينما يؤمن آخرون بالساحرات، هي صورة في ما لا يعد ولا يحصى من أوهام مكتسبة واسعة، تعزز قناعتنا الأعمق بالكيفية التي يتحتم من خلالها أن يتصرف وفقها أناس بعقلياتهم الشرقية المبهمة.
بيان اليوم تقدم لقرائها بعض من هذا الإصدار الممتع ضمن حلقات رمضانية.
البقرة الأم
حب البقرة عامل ضمن نظام معقد يتمفصل فيه المادي والثقافي
إن معظم الحيوانات الذابلة والعقيمة والهزيلة مملوك من أناس يعيشون في أصغر المزارع وأفقرها. لذلك عندما يتحدث الاقتصاديون عن التخلص من 30 مليون بقرة فإنهم في الحقيقة يتحدثون عن التخلص من 30 مليون بقرة تعود ملكيتها إلى العائلات الفقيرة، وليس الغنية. لكن معظم العائلات الفقيرة تملك بقرة واحدة لا غير، ما يعني أن ما ينطوي عليه هذا الترشيد ليس مجرد التخلص من 30 مليون بقرة بقدر ما هو التخلص من 150 مليون إنسان بإرغامهم على النزوح من الأرض الزراعية باتجاه المدن.
يبني المتحمسون لذبح الأبقار توصيتهم على خطأ يمكن تفهمه. إنهم يسوغون الأمر بأن المزارعين يأبون قتل حيواناتهم، وبأن هناك محرما دينيا يحول دون فعل ذلك، وبناء عليه فإن المحرَّم هو المسؤول أولا عن ارتفاع نسبة الأبقار قياسًا إلى عدد الثيران يكمن خطأهم في النسبة ذاتها التي تمت مراعاتها: 70 بقرة في مقابل 100 ثور. إذا كان حب البقرة يمنع المزارعين من قتل الأبقار التي تُعدّ عديمة الجدوى من الناحية الاقتصادية، فكيف يمكن أن تكون هناك أبقار أقل بـ 30 في المائة من عدد الثيران؟، وبما أنه يولد من إناث الحيوانات مقدار ما يولد من ذكورها على وجه التقريب، فإن شيئًا ما يسبب بموت الإناث أكثر من الذكور وحلّ هذا اللغز أنه في حين يذبح المزارع الهندوسي عامدًا عُجلة أو بقرة عاجزة بهراوة أو سكين، فإنه يستطيع، بل ويقوم بالتخلص منها حين تصبح من وجهة نظره حقًا عاجزة. وهناك أساليب عدة معتمدة تخلو من الذبح المباشر. على سبيل المثال، من أجل «قتل» الأبقار غير المرغوب فيها، يوضع نير خشبي مثلث الشكل حول أعناقها، لذلك حين تحاول أن ترعى يقومون بقرص ضرع البقرة فتمضي إلى حتفها. أما الحيوانات الأكبر عمرًا فتُقيَّد بحبال قصيرة وتترك حتى الموت جوعا – وهذه عملية لا تستغرق فترة طويلة إذا كان الحيوان بطبيعة الحال هزيلا ومريضًا. أخيرا، هناك أعداد مجهولة من الأبقار العاجزة قد تباع خلسة عبر سلسلة من رجال الطبقة المتوسطة المسلمين والمسيحيين لتنتهي في مسالخ المناطق الحضرية.
إذا أردنا تعداد النسبة المرصودة لعدد الأبقار في مقابل الثيران، فعلينا أن ندرس الأمطار والرياح والمياه وأنماط ملكية الأرض، وليس حب البقرة. والبرهان على ذلك أن نسبة الأبقار إلى الثيران تتفاوت بحسب الأهمية المتعلقة بالعناصر المختلفة للنظام الزراعي في مناطق مختلفة من الهند. فالمتغيّر الأكثر أهمية هو كميات مياه الري المتوافرة لزراعة الأرز. ذلك أنه حيثما وُجدت حقول الذرة المروية الواسعة، فإنهم يفضلون استخدام جاموس الماء كونه حيوان جرّ، وبذلك تكون أنثى جاموس الماء بديل البقرة الدربانية مصدرًا للحليب. لهذا السبب تنخفض الأبقار نسبة إلى الثيران 47 لكل 100 في الحقول الشمالية الهندية الشاسعة، حيث الرياح الموسمية وثلوج الهيمالايا الذائبة التي تشكل نهر الغانج المقدس وكما أشار عالم الاقتصاد الهندي المتميز ك. ن. راج، فإن للمقاطعات على وادي الغانج حيث تقوم زراعة الأرز على مدار العام نسبًا تقارب الدرجة النظرية المثلى. وهذا أقصى ما يمكن الوصول إليه من الكمال، حيث إن المنطقة موضوع البحث – سهل الغانج – هي قلب الديانة الهندوسية وتضمّ أكثر معابدها المقدسة.
بدورها، فندت النظرية التي تقول إن الدين في المقام الأول هو المسؤول عن ارتفاع نسبة الأبقار مقارنة بالثيران من خلال مقارنة بين الهند الهندوسية وغرب باكستان الإسلامية بصرف النظر عن حب البقرة وذبح العجل ومحرمات أكل لحم العجل، فإن لدى غرب باكستان كلها 60 بقرة لكل 100 حيوان ذكر، وهذا أعلى بكثير من متوسط الحد الأعلى لدى ولاية أوتار براديش الهندية الهندوسية. ولدى اختيار مقاطعات في هذه الولاية نظرًا إلى أهمية جاموس الماء وأقنية الري ومقارنتها بمقاطعات شبيهة من الناحية البيئية في غرب باكستان، تبين أن نسب إناث الماشية إلى ذكورها هي ذاتها على أرض الواقع.
هل أعني القول إنه ليس لحب البقرة تأثير مهما يكن نوعه في نسبة جنس الماشية أو في جوانب النظام الزراعي الأخرى؟ لا . ما أرمي إلى قوله إن حب البقرة عامل واحد ضمن نظام معقد يتمفصل فيه المادي والثقافي تمفصلا دقيقا، إذ يؤدي حب البقرة إلى حشد الإمكان الكامن للبشر كي يكدحوا .
< إعداد: ايت اومزيد سعيد