ما عدا إذا تمت مراجعة الأجندة بفعل قوة قاهرة في آخر ساعة، فإن سنة 2021 ستكون سنة انتخابية بامتياز، حيث سيكون الناخبات والناخبون مدعوين للتعبير عن إرادتهم بخصوص تجديد مختلف الهيئات التمثيلية التي يقرها الدستور: الجماعات الترابية، الغرف المهنية، ممثلو المأجورين، مجلس النواب، مجلس المستشارين. ويتعين أن يُختتم المسلسل الانتخابي برمته قبل موعد افتتاح الدورة البرلمانية الواجب انعقادها يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر 2021.
هذا يعني أن الوقت يُداهمنا. ومع ذلك ليس لدينا خيار آخر إذا نحنُ أردنا أن نتقيد باحترام الدستور وأن نكرس انخراطنا في إطار حياة ديمقراطية عادية. إذ على أساس هذا المنظور الديمقراطي، على الأقل، يشتغل مختلفُ الفاعلين بالمشهد السياسي الوطني على الموضوع الذي تُشرف عليه وزارة الداخلية، وهي قد شرعت فعلا في إجراء الاستشارات والمشاورات اللازمة.
في نفس الوقت، من المؤكد أن الأمر لا يتعلق بتنظيم الانتخابات لمجرد التقيد بالشكل. فالانتخابات ينبغي أن تشكل لحظة قوية في توطيد المسار الديمقراطي، وفي التعبئة الشعبية، أخذا بعين الاعتبار تطور البلاد والتحولات التي طرأت على خارطتها السياسية والديموغرافية، فضلا عن تطلعات الشباب وانتظارات مختلف الشرائح المجتمعية الأخرى ومن بينها الحركة النسائية، بالإضافة إلى التحديات الحالية والمستقبلية، ومتغيرات المحيط الإقليمي والدولي.
يتعلق الأمر، في المُحَصِّلَة، بتحديد المقاربة السياسية الديمقراطية المتجددة التي على المسلسل الانتخابي في مجمله أن يصطبغ بها، وذلك بإعمال أقصى درجة توافقية ممكنة. وبتعبير آخر، فإن النقاش حول “التقنية الانتخابية” (اللوائح الانتخابية، أنماط الاقتراع، العتبة الانتخابية، مكاتب التصويت، عملية الاقتراع، يوم الاقتراع، تمويل الحملات الانتخابية…) لن يكون له أي معنى سوى إذا تم ربطه بالأهداف العامة التي ينبغي تحقيقها وبأولويات بلادنا خلال السنوات القادمة، مع استحضار عنصرين أساسيين: استنفاذ النموذج التنموي الحالي لذاته والاعتماد المُنتظر لنموذج تنموي جديد، من جهة، ثم مستلزمات مغرب ما بعد جائحة كوفيد 19 من جهة ثانية.
والجميع يعلم أنه في إطار المشاورات الجارية مع الأحزاب السياسية، فإن وزير الداخلية طلب من هذه الهيئات أن تتقدم بمقترحاتها ذات الصلة بالمنظومة الانتخابية، على أن تتكفل الوزارة المعنية بإعداد توليفٍ تركيبي لمختلف المذكرات الاقتراحية من أجل استخراج نقط الالتقاء ونقط الاختلاف.
سوف لن نَــكُفَّ عن القول إن الانتخابات هي أولا، وقبل كل شيء، مسألة سياسية، سواءٌ تعلق الأمر بدور النخب الجهوية والوطنية، أو سواء بمكانة المرأة في المؤسسات التمثيلية، أو في ما يتصل بمشاركة الشباب والمغاربة المُقيمين بالخارج، أو كذلك من حيث جودة النقاش داخل البرلمان، وتكافؤ الفرص بين مختلف الفاعلين، وتكريس التعددية، ونزاهة العملية الانتخابية، ومصداقية المؤسسات…فالجواب لا يمكن أن يكون سوى سياسيا، في حين أن الأجرأة هي مَناطٌ تقنيٌ للخبراء.
في هذا الاتجاه بالضبط، ومن هذه المنطلقات، اكتسبت أهميتَهَا المذكرةُ التي قدمتها أحزاب المعارضة، الاستقلال، الأصالة والمعاصرة، والتقدم والاشتراكية. ولو أن بعضا من مقترحاتها تظل قابلة للتجويد والتحسين على المستوى التقني تحديداً.
فعلى سبيل المثال، حين تقترح المذكرة إحداث لجنة وطنية للانتخابات، فإن الأمر لا يتعلق باختزال دور وزارة الداخلية، كما يمكن أن تذهب إليه بعض القراءات التسطيحية. بل على العكس، فدورُ هذه الوزارة في العملية الانتخابية يظل رياديا كما هو عليه الأمر في جميع البلدان الديمقراطية. ومن شأن تظافر جهودها مع جهود اللجنة أن يجعل المسار الانتخابي أكثر نجاحا ونجاعةً ومصداقية.
نفس الأمر ينسحب على المقترح المتعلق بنمط الاقتراع وبتوحيد العتبة الانتخابية بالنسبة لجميع الاستحقاقات وتحديدها في 3% من الأصوات. فهذه المقترحات هي مُستخلصة من الأسئلة السياسية التي تطرقنا إليها أعلاه. علما أنه لا يوجد نمط اقتراع نموذجي أو مثالي أو صالح لكافة السياقات. حيث أن بلادنا لها فائدةٌ، بالنظر إلى المرحلة التاريخية التي تجتازها، في المزج الخلاق والوَسَطي بين نمط الاقتراع الفردي ونمط الاقتراع اللائحي النسبي الشامل.
فنمط الاقتراع المُقترح في المذكرة له حَسَنات مزدوجة: فهو إدماجي دون السقوط في فخ بلقنة المشهد السياسي، من جهة، وهو من جهة أخرى كفيلٌ بتقوية اللامركزية واللاتمركز، من خلال جعل الجهة فضاءً للتنافس السياسي ولبروز نخب جديدة في أفق انبثاق الدولة الترابية.
في نفس هذا الاتجاه يندرج عددٌ من المقترحات الأخرى التي تستند في مبرراتها إلى الإرادة في العقلنة، ومن بين ذلك ما يتعلق بالنفقات الانتخابية، والآجال المخصصة للحملات الانتخابية، والجدولة الزمنية لمختلف عمليات الاقتراع…
فالجميع يعلم أن للديمقراطية كُلفة مالية يؤديها المجتمع/ دافعو الضرائب، لكن يمكن تحقيق نتائج أفضل، على صعيد نجاعة وشفافية ونزاهة الانتخابات، من دون أي زيادة في النفقات ذات الصلة، بل فقط بتغليب كفة الفعالية وترشيد الإمكانيات والوسائل.
يبقى ضمان نزاهة المسلسل الانتخابي في كُليته، وهي قضية ترتبط بكافة الفاعلين المعنيين. فالإدارة لها مسؤوليتها من خلال ضرورة عدم اكتفائها بتسجيل “الحياد السلبي” كما كانت تفعل في الماضي. أما الأحزاب فلها واجبُ حُسن اختيار وتزكية المرشحات والمرشحين. والمجتمع المدني، من جانبه، يمكن أن يضطلع بأدوار المراقبة اليقِظة.
كما يتعين على المواطنات والمواطنين، والنخب المثقفة على وجه التحديد، ألا يكتفوا بمجرد دور “المتفرج”، أو في أحسن الأحوال صَــبِّ نار غضبهم وانتقادهم بعد فوات الأوان، مع ما تُجسده مثلُ هذه السلوكات وغيرُهَا من التقاءٍ موضوعي مع خصوم الديمقراطية.
فكل واحد منا، مهما يكن موقعه الاجتماعي، يمتلك سلطةً متساوية، وبالتالي فإنه علينا عدم ترك الآخرين يمارسون هذه السلطة في ظل غيابنا وأن يقرروا في مكاننا. وعلينا جميعا إذن أن نشارك في اللعبة….الديمقراطية. فليست هناك أيُّ حاجة إلى أيِّ قانونٍ للإكراه.
> بقلم: د. عبد السلام الصديقي