قالوا، من السهل لمن أراد أن يصطاد عربيا في شوارع الغربة اليوم أن يتعرف إليه، لست أنا من قلت هذا، لكنني أومن بذلك ربما أكثر منها هي، ليس فقط لأننا نحمل سمات الهوان أو أننا نحمل قلوبا في مهب الريح كما قالت هي، بل لأننا كلما نظرنا في أعين العرب، حتى من أعدائنا، التمسنا لهم الأعذار. أصبحنا نرى اليتم والجوع العاطفي والضغط، شيء فوق مقدرة أي شعب أن يتحمله، لكننا نفعل كل يوم. لو كان في دواخلنا نحن من نتشارك الجنسية العربية، اليوم، شيء من الضمير ما كنا نظرنا إلى البحر أبدا، أو أننا نظرنا إليه بعيون مليئة بالدموع، لأنه هو نفس البحر الذي ارتمينا إليه بدلا من أن نرتمي إلى بعضنا البعض، فهذه الأرض العريضة ما عادت تتلذذ الحب، بالقدر الذي تتلذذ الفراق. اليوم كل ما لذ وطاب لم يعد شهيا كالفراق.
حياة العرب اليوم مثل قطار، مهما طالت رحلته ومهما صادفنا به من بشر، يحين به وقت الفراق. اعتدنا أن نفارق بعضنا البعض، مثل جميع الشعوب، لكننا لم نعتد الألم بعد، كأن ذلك القطار الذي لا يتوقف من أجل أحد، هو نفسه يتوقف عندما يغادرنا ذلك الأحد، يتوقف إلى الابد، إلى نهاية الرحلة، فنعيش جسدا فقط. فإذا كان هذا الفراق الذي نقف عنده وقوف جسد غادرته الروح هو نفس الفراق الذي نستلذه اليوم فيا أسفي على هذه الأمة التي أصبحت تستلذ الألم والعذاب.
وصفة سهلة جدا، إذا كنت عربيا تعيش على هذه الأرض المباركة وأردت أن تكون شهيا، ما عليك إلا أن تكون الترجمة الحرفية لكلمة الفراق على صيغة بشر. كلما صادفت عربيا على سكة قطار، غادره بعد أن يألفك، ولا تخف أن تكون أنانيا، لأنك وإن لم تكن أنانيا وتغادره فسيغادرك هو، ولكن وأنت تفعل ذلك تذكر أنك ستجلس إلى نفس المقعد وستتذوق نفس الحرقة، عاجلا أم آجلا. وسط هذا الحشد من الأفكار الجارحة دعني عزيزي القارئ أتنبأ لك بخبر حزين وآخر سعيد. الخبر الحزين أنك لن تواجه الفراق مرة واحدة ما دمت تعيش على أرض ذات جنسية عربية، أما الخبر السعيد فلن تشعر بالألم إلا خلال التجربة الأولى، أو بالأحرى لن تشعر مرة أخرى بعد التجربة الأولى.
قد أبالغ في كره المغادرين، ربما لأنني من الصنف الثاني الذي غادره الكثير حتى لم يعد يعني له الفراق شيئا غير الخدلان والأنانية والجبن، لكني كنت دائما هكذا، لا أؤمن أن الحب يكون حبا إلا إذا عاش إلى الأبد، لأننني ممن وصفتهم أحلام مستغانمي بالمتتلمذين على مناهج أول دروسها في الحب “إلى الأبد”. رغم كل هذا فأنا أؤمن بأن نعمة أخرى غير الحب وجدت على هذه الأرض، وهي نعمة النسيان، فالبعض ممن وجدوا على هذا القطار أعظم استحقاقاتهم في الحياة هو النسيان.
لا أريد أن أطيل في مقدمة هذا الكتاب وإن كانت جميلة جدا وعميقة جدا وتحمل من معاني الحياة والحب ما لا تحمله كتب التاريخ والفلسفة. تبهرني أحلام مستغانمي كثيرا، لأنها كما يقول الإنجليز، تضع أصبعها على حقائق نشعرها جميعا لكنها ليست بالوضوح التام لكي نراها، وتظل مشبوهة حتى نلمحها على أغلفة أو سطور كتب احلام ورواياتها.
مرت أكثر من سنة ونصف منذ قرأت كتابها الأخير “شهيا كفراق” للمرة الأولى وأنهيت قراءته في الثالث من سبتمبر سنة 2019 بعد منتصف الليل بسبع وثلاثين دقيقة، أنهيته وأنا مصعوقة، مصدومة، ومغرمة بعبقرية هاته الكاتبة.
أنا لا أستحيي من القول إنني أجد النساء جذابات، تجذبن أي مخلوق يحب الجمال ويقدره. دائما ما أشعر بشيء من الحب عندما تشاركني امرأة طاولة احد المقاهي الذي أتردد إليه، لذلك فأنا لا ألوم تيه بعض الرجال ببعض النساء. أحلام مستغانمي إحدى هؤلاء النساء الجذابات في الوطن العربي، منذ طفولتي وأنا أراها جميلة، فيها شيء من معالم العروبة والمغاربية معا، شيء يجعلها تستثمر في الكلمات بكل أريحية.. فهي تعلم أن المرأة الجذابة رأيها مسموع، وإن كان نزار داخ أمام روايتها فهي تعلم جيدا أننا دخنا أمامها قبل ذاكرة الجسد.
ولدت هاته الجميلة الجزائية بتونس العاصمة في 13 من أبريل سنة 1953 بعد فرار والدها من قوات الاستعمار عن نشاطه السياسي ضد المستعمر بالجزائر. حرص والدها أن تتلقى تعليما عربيا في طفولتها عكسه هو الذي تتلمذ على يد المستعمر. حصلت على ديبلوم الدراسات العليا بالآداب بجامعة الجزائر سنة 1971 قبل أن تتوج بشهادة الدكتوراه بعلم الاجتماع بجامعة السوربون سنة 1985، غير أن باريس لم تكن مدينة الإنجازات فقط، بل كانت القطار الذي قابلت به الحب وتزوجت على متنه. تزين اسمها بعدد من الجوائز لا تقل قيمتها عن قيمة كتبها من بينها عام 1996 جائزة مؤسسة نور لأحسن إبداع نسائي باللغة العربية في القاهرة، وفازت سنة 1998 بجائزة نجيب محفوظ من قبل الجامعة الأميركية بالقاهرة عن روايتها “ذاكرة الجسد”. من أجمل كتاباتها ذاكرة الجسد، الرومنسية العجيبة، الأسود يليق بك، وكتاب نسيان كوم الذي لم يكن سوى أملا جديدا في حياة جماعة المفارقين التي ننتمي إليها.
تتميز أحلام مستغانمي بأسلوب حكائي جميل ورومانسي ينبض بالحياة لكنه في نفس الوقت ناضج وفاضح لكل أسرارها التي كلما عشقنا تناسيناها. غير الرومنسية فأسلوبها يدل على أن أحلام لازالت لم تشف من خيبات أمل هذا الوطن الذي نتشارك أوجاعه. لا أتذكر وأنا التي تذوقت أغلب أعمالها، كتابا أو عملا واحدا لا يحمل حرقة الوطن. لا أدري هل هي لعنة اللغة أم لعنة الموقع، لكننا نتشارك نفس المأساة حتى مع غير العرب ممن يسكنون هذا المكان أو يتكلمون نفس اللغة. يعجبني في أحلام أنها تتحدث عن الحب بدون قيود، جنسية، عمرية، أو قيود الوضع الاجتماعي أو الارتباطات، لا شيء يهمها غير الحب، وهذه صفة لا تزين طلة كل النساء.
دائما ما تصادفني كتبها وأنا على أحد مقاعد هذا القطار الذي يطل على كل شيء إلا الحب وتبدأ بسحبي مجددا. شهيا كفراق، عنوان أول ما يرمي إليه هو جنون هذا الشعور، شعور الحب. خليط من الحسرة وعدم المبالاة في صورة عنوان، كالحب الذي يأتي بارد المشاعر ليخبرك أنك ستحبه وأنه سيغادرك بعد ذلك، فتتلذذ بالألم، وتنتظر الفراق كأنه طبق من الحلوى. تقول أحلام إنها لا تؤمن بأن الحب يكون حبا إلا إذا عاش باحتمال الانتهاء، وأنا أقول إن الحب إذا بلغ مبلغ التعقل هذا كله فهو ليس بالحب. لا سبيل لأن يرتبط الحب بالعقل، تقول أحلام أيضا، في الحياة نتعلم من جيوبنا، وفي الحب من قلوبنا، لذلك فموقف العقل من كل هذا موقف هزيل ضعيف. شهيا كفراق، من وكيف ولماذا وتحت أي طارئ يكون الشيء أو المرء شهيا كفراق؟ لماذا شهي ولماذا الفراق، ألا سمة لنا كأمة غير الفراق؟ فإذا كان الجواب نعم، كيف لنا أن نفك هذا السحر ونجتمع مرة أخرى؟
“… أبعثها في زجاجة، إلى الذين لم يعد لهم عنوان لنكتب إليهم”، هذه العبارة بالنسبة لي مؤثرة جدا، ليس فقط لأن لي أحبابا وأصحابا فقدت بريدهم من مدة وما عدت ألاقيهم إلا في الأحلام فأحضنهم بقوة، بل لأن لي أشخاصا قررت أن أكتب آخر نسخة من عناوينهم وأرميها للبحر فلا أتذكرهم ولا أين أضعت سنواتي وأنا أتمسك بهم. أنا لا أريد أن أرمي رسائلي إلى بريد بدون متلق، وأنا لا أريد أن أضيع جهدي في رسائل بدون قارئ، أريد أن أكتب رسائل يقرأها الجميع كي يكونوا سندا لي في قراراتي، في أن أكون أنانية في قصة الحب القادمة، فلا مفر على قطار الحياة من قصص الحب مهما أدرنا ظهورنا للعاشقين أو لبسنا أقمشة من سواد تخفي معالم الجمال فينا.
الجزء الأول، أكتب كأن لا أحد سيقرؤك… لا يفتأ أي كاتب أن يعيش لحظة فراق حبره، فيشعر بالعطش والظمئ معا، لكنه دائما ما يقوم من هذا الفراق أقوى غير أنه يظل يخاف أسباب هذا الفراق إلى الأبد، فيقرر أن يكتب كأن لا أحد سيقرأ له أو سيقرؤه، أو ربما يقرر أن يتبنى بطلا أو عاشقا يجعله يتبرأ من مبادئه وقناعاته، فأحلام التي ما فتئت تلبس لباس الحداد على أبطالها تشعر في لحظات بداية الكتابة بالحاجة إلى بطل جديد، فتقرر كطالع حسن أن تتبنى قطة ربما تكون مثل النافذة التي دفعت خالد بن طوبال للكتابة في تلك الليلة في ذاكرة الجسد.
الجزء الثاني، ما جدوى رسائل حب تصل متأخرة، لحب ما عاد له من صندوق بريد… هذا أبلغ ما سمعت في حب يمضي ويجر مثل الطوفان مشاعر الحسرة، كنت أريد أن يشعر الجميع ممن أضحوا ضحية الحب بهذه الحكمة فتتعرش في دواخلهم. الصدق والكذب وجهان لعملة واحدة وهي الواقع، لذلك فالكتابة واقع مختلف لأنها صناعة للصدق من مجموعة أكاذيب. عند البعض يأتي الموقف ليبرر الكذب ولدى البعض الآخر لا شيء يبرره، تقول أحلام إن شعبا يؤمن أن خيانة الزوجة من خيانة الوطن لا يمكن إلا أن يكون أصدق حبا من شعب لا يطلب تبرير حاكم عقد قرانه عليه عما صدر منه وبدلا من ذلك يطلب تبرير كاتب عما يكتبه. أما للبشرى، فالكاتب غالبا ما يقول الحقيقة لكي يبدأ الكتابة، أما ما تبقى من وقته فيقوم بصنع كعكة 95 في المئة منها كذب ويزينها بخمسة في المئة من كريما الصدق. بداية الكتابة لحظة صادقة جدا لكنها في ندرة الحب هاته الأيام، لذلك فعلى طول هذا الجزء كانت أحلام تتحين بداية الكتابة وهي تكذب عجزها كأنها لا تدري أنها بذلك تصنع حكما من ذهب أقل ما يقال عنها إنها صادقة.
من الإنصاف فعلا ومن الصدق أيضا أن نقول إن بطلة هذا الجزء من دون منازع هي الكاتبة إيزابيل ألندي التي لم تذق العذاب وهي تتمخض رواية جديدة، حيث دائما ما اعتمدت يوما محددا في السنة لكي تبدأ الكتابة. وهي، إيزابيل، تكتب أول مرة لجدها لم تكن لتعلم أن أحلام ستتساءل هل يجب أن تكتب لجدها عن الفراق، لأنها بكل بساطة لم تعد تؤمن بدواخلها أن هناك من يستحق رسائل الحب، فالحب الذي دفع البعض لأن يكتب رسائل الحب لم يعد يعني للبعض الآخر شيئا داخل هذه الفوضى التي أصبحنا نعيش بها. توصلت أحلام في آخر النقاش بينها وبين الحبر أن الوسيلة الوحيدة لكي تكتب دون شعور بالذنب أو الضيق أن تكتب رسائل حب وتحتفظ بها لنفسها.
الجزء الثالث، رسائل لن تقرأها كاميليا… كم هو مثير أن نختار وجهة لرسائلنا مع شعور عميق بالراحة لأن الوجهة لن تتلقى هاته الرسائل. من سخرية الواقع أن المرأة الجميلة التي كتبت من أجلها أحلام كتابها نسيان كوم كي تحثها على نسيان رجل، هي نفسها ستكون وجهة لرسائل لن تقرأ بعد الآن، أو ربما سيقرأها العالم العربي أجمع. عندما تكون شخصية كأحلام، وترفع خمسة قضايا ضد أناس قالوا إن أحدهم كتب من أجلك ذاكرة الجسد، فسيكون لك الكثير لكي تحكيه لصديقة عمرك خصوصا إن كنت تنوي ألا تبعث لها بهذا الكثير. هكذا أتمت أحلام جزءها الثالث وهي تصنع من كاميليا ورسائل حبيبها السابق أبطال رواية جديدة، رواية مختلطة بالذكريات والواقع. كان قد مضى وقت طويل على أحلام منذ كتبت نسيان كوم، لكننا لا نراهن أنه كان أطول على كاميليا التي فقدت حب حياتها منذ ذلك الحين وتزوجت وأنجبت، بل أننا متأكدون من ذلك، فالوقت بالنسبة لأحلام لا يرحم، يذكرك كلما رأيت عاشقين منذ متى أقلعت عن الحب.
رغم أنها أهدت نسيان كوم لجماعة الرجال الذين بمجيئهم تتغير الأقدار، ورغم تلك المقدمة الطويلة التي كانت تمدح فيها جماعة الرجال، ورغم أنها كتبت ثلاث روايات أخرى بلسان رجل كخالد بن طوبال، فإن نعتها بالمتحيزة للرجال جعلها تندم أنها كتبت نسيان كوم من أجل كاميليا على حد قولها، لكنها لم تكن تدري بعد بالمفاجأة التي كانت تحملها لها الأيام.
الجزء الرابع، الغربة تأخذ منك ما جئت تطلب منها… أكتب وأنا أتوخى الحظر من أن أفشي سر أحلام، كأنها فعلا أبقت على رسائلها محفوظة. قالت أحلام، الحب الذي يأتي قبل أوانه نغتاله وإذا أتى متـأخرا أودى بنا، أنا أقول إن الكتابة والقراءة كذلك، لذلك فأنا لا أجرؤ أن أحكي ما تحكي عنه أحلام بهذا الجزء ولا حتى أن أصف شعور الصدمة الذي انتابني وأنا أتعرف على حبيب أحلام الجديد الذي أثناء تهربيه الحقيقة، ما أخفى من شيء إلا كان يدل الضوء عليه. النهاية العربية الجميلة هي التي تلهبك بصدمة سواء كانت سعيدة أو حزينة، غير شهيا كفراق، قليلة هي الروايات الصادمة التي تستحق لقب النهاية العربية، فهذا الوطن لا نجيد فيه شيء غير النهايات والصدمات.
إلى الآن، وأنا أكتب الكلمات الأخيرة بهذا المقال، لم أستيقظ بعد من الدوخة التي سببتها هذه الرواية، فأنا إلى الآن لا أعلم هل كانت صادقة وهي تحكي هذه التجربة أم أنها تنتقم منه للمرة الثانية، لكنني متأكدة أنها وهي التي كانت تريد كتابة رواية عن الفراق دون أن تكون رواية صبيانية بعواطفها، قد بلغت هدفها وأصابته إصابة الكلمة الواحدة لمعناها دون سواها من المرادفات. ختاما، لا أتذكر في أي من كتاباتها لمحت أحلام مستغانمي إلى ذلك لكن خلافا لما نظنه ونحن على حافة الانكسار عن الفراق كنهاية المطاف، ربما يكون هو ذاته البداية التي تستحق أن نكسر الساق من أجلها. وأنا أطوي صفحات هذا الكتاب وأعود أدراجي كي أضع عنوانا لهذا المقال، جاءت على طريقي قولة لغسان كنفاني “لا تقل لي أحبك فلقد سمعتها بعدد نجوم السماء، افعل ما يمليه عليك حبك، فنادرا هم الصادقون”، لذلك فلا تأسفن على فراق من فارقوا ربما كانوا أصدق في فراقهم من بقائهم، فنادرا هم الصادقون.
> بقلم: كوثر الصابري