نفحات رمضانية في رحاب الشعر الملحون-الحلقة 10-

فن الملحون من أنواع الطرب التي ابتكرها المغاربة بعد أن تأثروا بالموسيقى الأندلسية خلال القرن السابع الهجري في العهد الموحدي للمغرب، فوظفوا النغمات والإيقاعات للتغني بقصائد الشعر والنثر سواء باللغة العربية الفصحى أو باللهجة الدارجة.
وبدأ الملحون بالمدح النبوي ومناجاة الله ثم الرثاء، وكان له دور كبير في المقاومة ضد الاحتلال الإسباني والفرنسي والبرتغالي، وانتشر الملحون بين الناس كفن شعري وإنشادي وغنائي، موطنه الأول كان مدينتي سجلماسة وتافيلالت الأمازيغية– جنوب المغرب- ثم انتشر ليصبح فنا شعبيا تتغنى به الفرق في مختلف مدن المغرب. وتشتمل قصيدة الملحون على كلام ينتظم، لكن في غير ضبط محكم لوحدة الوزن فيه والقافية، وتنقسم قصيدة الملحون إلى خمسة أركان، هي المقدمة، أو السرابة وهي قطعة قصيرة تؤدى على غير ما تؤدى به القصيدة، ثم الدخول، وهو شطر في استهلال القسم بدون عجز، والقسم الثالث هو الحربة، وهي اللازمة، ويؤديها الشداشة وهم جماعة المغنين والعازفين، والقسم الرابع هو الأقسام، وهي الأبيات المغناة، أما القسم الخامس فهو الدريدكة، وتختم القصيدة وتنشد على إيقاع سريع.
وارتبط الملحون كفن مغربي أصيل بشهر رمضان، وذلك منذ ثمانية قرون تقريبا، حيث تتاح خلال الشهر فرص زمنية للاستماع والاستمتاع بهذا الفن الذي يتميز بالتزامه بقواعد اللغة العربية الصحيحة في الغناء، واختيار القصائد العظيمة لعمالقة الشعر الصوفي لغنائها، وحتى اللهجة المغربية لا يتم غناء أي كلمات لا تلتزم بآداب وضوابط هذا الفن الأصيل. ولا غرابة في ذلك، فالملحون رسالة فنية وليس مجرد غناء للتسلية، ونجد فيه تمسكا بالآلات الوترية والايقاعية الأصيلة والتي تضيف للكلمات العربية الفصحى نوعا من السحر الذي يصيب قلوب المستمعين قبل آذانهم.


لقد كان شهر رمضان بالنسبة لشاعر الملحون مناسبة اضطلع من خلالها حمل شعار الدعوة إلى التمسك بالأخلاق الفاضلة ، بغية بناء الشخصية الخلقية ، ومن ثمة ، عمد إلى الالتزام بكل ما هو جميل ، فذم الدنيا وزهد  فيها ، وبذلك ، تذوق الممارسة الروحية من خلال صيامه لشهر رمضان ، فكبح جماح النفس لتظفر بالسمو الأخلاقي والنفسي . يقول شاعر الملحون الآسفي ، صالح بن محمد:

           ياللايم واعلاش اتلــوم            شوف عيبك سلم ليا
           اعبد ربي تنسى لهموم            صوم ، صلي أزهد فالدنيا
          والرجا في الحي القيوم            خلق وسامح ليا

فهذه المعاني تكاد ترجعنا إلى غير قليل من قصائد الملحون التي عبر فيها الشعراء عن دعوتهم إلى التمسك بفضائل الأخلاق سواء في رمضان أو في غيره ، مما أكسبها قوة في التأثير ، واظهرها في مظهر الجدة . ومثل هذه الخطرات النفسية تشع أصالة وذاتية ، لأنها تجارب خاصة وإحساسات شخصية لا يتأتى فيها النقل والاقتباس.يقول الشاعر محمد بالحاج:

        عيش الدنيا كله اعذاب           واتبعها في الهوى خاب
                          الآخرة دار الصواب
                          لا تقصد إلا اللـــــــه
      والدنيا تعكب بالكدار           واحلاوتها تضحى امرار
                          دير ايقينك فاللــــــه ..

ويبدو أن غاية الشاعر هي البساطة والحرص على فضائل الأخلاق وغيرها من مظاهر الحياة البسيطة التي لا تكلف فيها .
ومن خلال قصيدة ” التوبة ” للشاعر مولاي اسماعيل العلوي سلسولي ، نستشف دعوته إلى التخلي عن الدنيا وزينتها ، والابتعاد عن شهواتها وملذاتها ، إذ لا ينبغي الاشتغال بها ما دام العمر سينقضي يوما ما ، وسيجد الإنسان عمله منشورا أمامه .. يقول:

     يا منه مشغول بالدنيا لا يغويك زينها عند الله مسافر
                                يفنى عمرك ما عملت تلقاه منشـــــــور
    الـــدنيا ما دايمــة لحــد وخـــل لامت الحبـــــــــــاب
                                إذكروا اسمك غير عبد مسكين وصار للتراب
                  أراسي اضعيف لا تعد انفعك لبهوت فالجواب

فالإنسان بين أمرين ، إما أن يوجه سلوكه كله ، أو أن يكون قلبه موجها بأشياء أخرى ، لأن القلب عندما يكون ضعيف الإيمان أو اليقين ، أي عندما يكون مريضا ، فإنه في هذه الأحوال كلها يكون موجها تتغلب النفس عليه ، فتجده مستسلما أمام شهوات النفس ، مستسلما أمام أمراضها .. الكبر والحقد والحسد والضغينة والكراهية، سلوكات قد توجه قلبه وتصرفاته وسلوكاته. يقول مولاي اسماعيل العلوي سلسولي رحمه الله:      

 النفس شهواتها اكثار فالدنيا محال تنحصر
                         أراسي في موجة لوزار غارق ما جايب لخبر
      تتبرا منك فالنهار والليل ما دمت فالعمــــر
                         نوصيك أوصايا تنال بها رضات العالــــــــي
                    شهد بالله والنبي من جانا مرسول ..

ويرى الحاج الصديق الأسفي ، أن الهوى والنفس قد اجتمعا عليه ، ولم يتركا له فرصة العودة إلى طريق الله .. ومع ذلك ، فهو لن يبرح عاكفا على البحث عما يخلصه منهما ، عازما على السير في طريق الله :
      ضاع عمري في الهوى سعفت الخنـــاس       بعدما سلفت عن كهل اثقل لــــوزار
      الهوى والنفس اتفقوا اعليا من غير اقياس      ما ابغاوا إعيقو زار المير ذات تكيس
أما الشاعر الطالب بنسعيد شيخ أشياخ الملحون في أسفي ، فقد سلبته دنيا الغرور وإبليس الفاجر ، يقول :
      سلبتني ادنيت لغرور أيبليس الفاجر             والنفس اتعدات فحضنهــــا ..
وهو نفس ما ذهب إليه الشاعر أحمد بلحاج الأسفي  حين اعتبر النفس والهوى والشيطان أحبابا فيما بينهم ، يكيدون للإنسان ليسلكوا به في المتاهات المظلمة والطرق الضالة . يقول:
          والنفس والهوى والشيطان احباب            ذاتي في كيدهم مرعوبا
          والعمر حان واغمارق اعدر شاب           خيط لكفن طل افنوبـــــا ..
فشهر رمضان ليس مجرد أيام تمر ، بل هو فترة معلومة للتفكر والتأمل في الحياة والعمل من أجل الفوز برضى الخالق سبحانه . إنه سفر روحي يرقى بالصائم من المستوى اليومي المعتاد، إلى مستوى التنظيم البيداغوجي والجسدي والنفسي بشكل يوزع حياة الصائم إلى عتبات، وكل عتبة لها طرقها الخاصة التي يجب على الصائم أن يمر منها ومعايشتها بكل جزئياتها وتفاصيلها.

يكتبها لـ “بيان اليوم” الدكتور منير البصكري الفيلالي

*نائب عميد الكلية متعددة التخصصات بأسفي سابقا

Related posts

Top