الروائي المغربي طارق بكاري

في زمن ذهب الكثير إلى أن الإبداع أخذ يتقلص وأن الجيل الحديث لا يقدم شيئا، ظهرت رواية باكورة موسومة بـ»نوميديا» للمبدع الشاب طارق بكاري على القائمة الطويلة لجائزة «البوكر». رواية تمتلك كل مقومات الكتابة الحداثية، تعتبر على لسان المبدع محمد برادة رائدة في مجال استثمار الفضاء الأمازيغي بطرحها لإشكالية الهوية المغربية المتشظية. رواية مجددة في البناء الروائي وفي الحدث الذي يغرف من الميثولوجيا والواقعية والمزج بين الكلاسيكية (الحكاية) والتجريب (البناء واللغة)، بأسلوب شاعري مكثف ومطرز، لأن داخل الرواية هناك شاعر خفي تفضحه ينابيع الشعر المتدفقة في المقاطع السردية، والتي تحيل على مرجعية شعرية قوية وقراءة نهمة، فضلا عن تشخيص الفضاء (إغرم)، والتداخل النصي الذي يبرزه تعدد الأصوات (مسودات جوليا، مذكرات خولة، أشعار نضال، صوت السارد). ولأن الكتابة الحديثة تفرض متونا متنوعة لكسر ملل وروتين القراءة فإن الرواية ركزت بشكل واضح على الايروتيكية كخلاص وانعتاق  وتحرر من غبار الخيبات والأحزان، من تلك الأعطاب التي نسمع أنينها المكتوم بين السطور ولا يقهرها سوى الجنس والحب والفضاء، والتراجيدية التي  جاءت كعمود فقري للرواية ببعدها المأساوي الذي تتضافر فيه قوى الأقدار والصدمات والندوب والخداع.

> الأستاذ طارق بكاري، حدثنا كيف ولدتْ فكرة “نوميديا”، أكيد أن المكان كان دافعا قويا، فهو يحضر كشخصية رئيسة، ونوميديا الهوية الخرساء حركت الشاعر الراقد بين السطور.
< الرواية لا تولد دفعة واحدةً، جزء كبيرٌ منها تنضجهُ هي نفسُها، في البدء كانَ المكان، و كان للمكان غواياتهُ وسحرهُ الذي لا يقاوم، في البدء كان الطفل الذي كنتُهُ يتأمل مشدوهاً سحر إغرم، كانَ الحبُّ والقلب وإحساس آخر غامض، إنني مدينٌ للمكان بالكتابة، و لأنّ الحب، هذا الحب العذري غير كفيلٍ بإنضاج رواية، فقد كانت نوميديا بعد المكان خطوط عريضة وأفكار كثيرة، وحدها الكتابة كانت قادرة على لمّ شتاتها ونظم حبّاتها في عقد واحد هو “نوميديا”، الفكرةُ بنتُ المكان، لكنّ القراءة والكتابة معًا تعهداها بالتغذية، في مرحلة ما من عمر الكتابةِ، تتولّى الكتابة نفسها رسمَ مصائر ومسارات الأبطال، ولا يملكُ الكاتب إلا أن ينقادَ لسلطةِ النص. ميلادُ نوميديا كان بالتدريج وعلى مراحل متفرّقة، أمهلتُ نفسي وأمهلتُ النص وغذيته بالشعر، من يقرأ “نوميديا” يرى أنها تتبرقعُ في جبة الشعر، بل إنها لا تقولُ الحكايةَ إلا شعرًا، وكانَ في الأمر محاولة متواضعة للتجديد الأسلوبي وضخّ أوردة الحكاية بجرعات من الشعر تستحكمُ بقلب المتلقي من أول الرواية إلى آخرها.
> ما الجدة في هذه الرواية التي خلقت الجدل وحلّقت على نطاق واسع بين الكثير من المنابر الإعلامية وحظيتْ بثقة جائزة البوكر؟ أكيد أن هناك سرا خفيا لا يدركه إلا الكاتب مهما تضافرت جهود النقاد والإعلاميين؟
< هناك أشياء كثيرة تشكل مظاهر الفرادة في رواية “نوميديا”، شعرية الأسلوب وتنوع المواضيع المطروقة، رواية نوميديا تنظمُ جملة من المواضيع دونَ أن تضيعَ الحكاية، لكن أعتقد أن أكثر ما لفتَ الانتباه ل”نوميديا” هو أنها بالحكايةِ تتبنى جملةً من المواقف إزاء العالم والمجتمع والحضارة والدين والنظام، دونَ السقوط في فخ المباشرة الفجة. رواية “نوميديا” تحدد مواقفها من خلال المواقف الدرامية لأبطالها وتتركُ للمتلقي حرية كتابة القصة والاجتهاد من أجل الوصول إلى أسرارها كاملة.
> التراجيديا أو البعد المأساوي تيمة حاضرة بقوة في نوميديا؟ أليست الرواية معنية بزرع بذور الأمل عوض التكريس لنفس النمط التراجيدي خصوصاً في جغرافية آذانها صماء؟
< الأدب غير معني بالأمل، قول الحقيقة أكثر أهمية، المأساة التي ورّطتُ فيها مراد الوعل جزء من المأساة التي نعيشُها، أو ليستْ البشريةُ منذورة للشقاء؟ أعتقد أنّ التراجيديا تقولُ الأمل على نحوٍ أبلغ من النصوص التي تتجهُ إلى الأمل على نحو مباشر، وقد تنبه أرسطو منذ وقتٍ مبكر إلى الدور التطهيري الذي تقومُ به التراجيديا. إليكَ مثلاً رواية “نوميديا”، كل من يقرأ حياة مراد الوعل ثم يقارنها بحياتهِ يفهمُ أنّ هناكَ دائمًا من هو أسوء، ومن يحملُ  بينَ جوانحهِ همّا يفوقُ الهموم جميعها، ومن هنا على وجه التحديد يمكنُ للقارئ أن يتخفّفَ من شجنه ويتقبل نفسهُ، وبهذا المعنى تكونُ الرواية جسرًا لرأب التصدعات النفسية وإقامة نوع من المصالحة بين المرء و نفسه. ثم إنّ الرواية لا يجدرُ بها أن تخونَ واقعها الذي تنتمي إليهِ، وأعتقد أنها لم تخرج عن واقعها وفي كثيرٍ من الأحيان نقلتْ ما نعيشه بأمانة. المأساة بمعنى من المعاني جزءٌ من حياتنا. جزء من حياة البشرية.
> لماذا الإيروتيكية كمحرر لانعتاق من رحى الخيبة والأحزان والمآسي التي ولدتْ مع البطل؟ هل أزمة العشيرة العربية كبت جنسي؟
< أولا ينبغي التشديد على أمر مهم؛ حضور الجنس في رواية “نوميديا” ليسَ حشوًا إضافيًّا ولا ترفًا زائدا. الجانب الإيروتيكي كان يخدمُ سياقات سردية معينة، تؤكد خيبةَ البطلِ العالق في جسدٍ يجنح صوبَ الموتِ بالقدرِ الذي يتعلقُ بالحياة دونَ أن يميلَ كل الميلِ ويحسمَ معاركَ البطل النفسية. جسد مراد الوعل هو مسرحٌ لتناقضات جمة يمكن أن تختزلَ في ثنائية العجز والقوة؛ العجز ممثلا في تداعي جسده ونزف أنفه والقوة ممثلةً في فحولتهِ، وهذا لعمري تأكيد على أن الحياةَ بالغت في إيلامهِ ولم يكفها أن حاصرتهُ بحتمياتها بل في جسدهِ أودعتْ صراعًا أكبر منه. صراعٌ أبقاه في مساحة هشة بينَ حياة منقوصة وموتِ تعوزهُ ضربةُ الحسم.
> لماذا “نوميديا” كعتبة نصيّة رغم أنها تأخذ حيزًا قصيرًا في الرواية مقارنة مع شخصيات أخرى فاعلة كخولة وجوليا و نضال مثلا؟
< تعجبني الرواية التي لا تبوح بأسرارها من أول عتبة وتبقي القارئ في حالة انتظار لذيذة. العنوان أحد مفاتيح الكتابة وقد حاولنا ما أمكن أن نبقيهُ لغزًا، وأرى أنّ “نوميديا” تستحقّ أن تكونَ عنوانًا للرواية لعدة أسباب، لعلّ أهمها كونُ نوميديا الضربة القاضية التي استنزفت قوى البطل النفسية وأدخلتهُ في دوامة حرب عاطفية أكبر منه. “نوميديا” هي بشكل أو بآخر قرية إغرم وقد اختزلتْ في امرأة. جميلة هي كإغرم. غامضة وخرساء كإغرم. طاغية ومتمنعة كإغرم.  نوميديا هي إغرم وقد توحدتْ في جسدٍ بشري. الفضاء الأمازيغي يستحقّ أن يحضرَ عنوانًا للرواية من خلال نوميديا التي تمثلُ الجانب الأمازيغي في الرواية.
> إغرم منطقة نائية في المغرب العميق، أناسها بسطاء، محافظون، ما يزالون يؤمنون بالخرافات ويحتكمون إلى المشعوذين، مجتمع فلاحين ورعاع. هل ترى بأن الانفتاح المبالغ فيه وتيمةَ الحب المكثفة  في الرواية  تتلاءم مع وسط إغرم؟
< تيمة الحب المكثفة في الرواية تخصُّ البطل و نساءهُ، الفندقُ لا يتوسط القرية بل يجاورها وبينَهُ وبينها نهرٌ، لأنّ القرية بنية ذهنية ومجتمعية منغلقة لا تقبل الغرباء بل وسرعان ما تلفظهم. الحضور المكثف للحب يرتبطُ أساسًا بالفندق الذي لا ينتمي للقرية، جانب كبير من غراميات البطلِ يجاورُ إغرم القرية أو يتجهُ صوبَ الفضاءات المتاخمة لها. الحب في إغرم مثل الحب في كل القرى والمدن المحافظة يُعاشُ في الغالبِ تهريبًا وفي الخفاء. وأعتقدُ أن البطل كان يتلافى المجاهرة ويسعى للستر، الحب في الرواية كالفندق، يجاورُ إغرم لكنه أبدًا لا يكونُ جزءًا منها.
> هل النقد والإعلام المغربي أنصفكَ ككاتب في بداية مشوارك أم قابلك بالجفاء والأبراج العالية؟
< أعتقد أن النقد أنصف رواية نوميديا، لكن أعتقد أن الفضل الأكبر يعود إلى جائزة البوكر التي لفتت إليها الانتباه. قبل الوصول إلى القائمة الطويلة ثم القصيرة لجائزة البوكر كانَ الناقد والروائي المغربي محمد برادة من أوائل من كتبوا عن العمل، لكن بعد البوكر انتبه عموم النقاد والمثقفين إلى العمل ولا يكاد يمر يومٌ دونَ ألا تجدَ مقالا هنا أو دراسةً تتناولُ نوميديا بالتحليل سواء على صفحات الجرائد الوطنية أو وسائط التواصل الاجتماعي أو الصحافة الإلكترونية. إعلاميًا أعتقد أن متابعةً الإعلام المغربي للشأن الثقافي ضعيفة، والأمر لا يقتصر عليَّ وحدي بل يشمل جميع المثقفين.
> لماذا راهنتَ على دار نشر عربية معروفة بدل دار نشر محلية؟ هل هي إشكالية توزيع أم إشكالية جشع أم عدم الإيمان بالمواهب الشابة؟
< كانت تحكمني بدار الآداب علاقة عاطفية منذ وقت مبكر. حين انفتحتُ على الرواية كنتُ دائمَ الإعجاب بكتب دار الآداب و كتّابها، لدرجةِ أنني كنتُ أثقُ في الكتاب إذا كانَ صادرًا عن هذه الدار بغض النظر عن اسم صاحبه، و لعلَّ معظم المثقفين و القراء والأدباء يتفقونَ معي في هذا الأمر. ثقتي في دار الآداب ككاتب هي امتدادٌ لثقتي فيها كقارئ شغوف بالأدب. ثمَّ إنَّ كلَّ كاتب يحلمُ بأن يزفّ روايتَهُ إلى دار نشر تستحق. عالم اليوم تغير ولم يعد يكفي أن يكونَ النص جميلًا فقط بل يجب كذلك أن يقترن بدار نشر محترمة قادرة على تسويقه بشكلٍ جيد. وأعتقد أن دار الآداب واحدة من دور النشر القليلة التي تحترم كتابها وتحترم المتلقّي. أمّا عن النشر في المغرب فالحق أنني لم أفكر في الأمر، هناكَ دور نشر محترمة لكنها معدودة على رؤوس الأصابع. أغلب دور النشر المغربية تلهث وراء الربح المادي وتنشرُ لمن يدفعُ أكثر.
> ماذا عن طقوس الكتابة عند طارق بكاري ؟
< ثلث الوقت للقراءة والثلث الباقي للكتابة، بهذا المنطق أتعاملُ مع الوقت المخصص للأدب. أنا على يقين تام أنه لا تجارب المرء ولا مأساتهُ الشخصية قادرة على إنضاج نص قوي. نصف الكتابة موهبة لكن النصف الثاني قراءة. أكتب بعد الزوال فقط ابتداءً من الثانية. صارم في ما يتعلق بتدبير الوقت. رواية “نوميديا” كتبت كاملة بعد الزوال، ما بين الثانية والسادسة. في هذه الفترة بالضبط أجدُ في نفسي رغبةً في الكتابة. لستُ من هواة الكتابة في المقاهي وفي الأماكن العمومية. أحبُّ أن أختليَ بالكتابةِ وأبتعد عن صخب واقعي.
> ما هي الأشياء التي لم تكتب في الرواية والتي توحي بالزحف في نصوص جديدة؟
< أشياء كثيرة، على أيةِ حال، هناك أشياء مهمة في رواية نوميديا تشكل عمود مشروعي الأدبي. ولا بد أن تكونَ لها تواشجات مع النصوص المقبلة، كالحضور الطاغي  للبعد النفسي وشاعرية القوالب اللغوية، لكن هناك الكثير من الأفكار والمشاريع الأدبية التي كانت شرارتها نوميديا والتي لا بد أن تستأنف في أعمال مستقلة.
> كلمة للمبدع يقول فيها بكل حرية ما يشغله.
< يشغلني الكثير. تشغلني الحياة و تناقضاتها الجمة. الكثيرُ من أسئلةِ مراد الوعل تشغلني. ما جدوى الحياة؟ ما الهوية؟ كيف السبيل إلى إنعاش هذه الحضارة… ويشغلني صراعي الداخلي. الكتابة قد تمنح لبعض معطوبي الروح البرء المنشود لكنها للبعض سبب في الشقاء. ولعلي أنتمي إلى الصنف الثاني. والكتابة بدل أن تكونَ أداة ترميم هي وسيلةُ تدمير، لكنه تدمير ضروري، وشر لا بدّ منه. في الأخير لا يكتُبُ الوجعَ الكبيرَ سوى وجعٌ أكبر. يشغلني رهان التجديد الروائي، تجديد المبنى والمعنى وتطوير الرواية العربية والدفع بها إلى الأمام. كثيرة هي الأشياء التي تشغلني لكن المقام يضيق بحصرها جميعها.

حاوره: يوسف كرماح

Related posts

Top