حين يضع مبدع ما حدا لحياته، يكون بذلك قد قمع بداخله إلى الأبد إنتاجات فنية أو إبداعية أو فكرية، كان من المفترض أن تخرج إلى الوجود، خصوصا عندما يكون هذا المبدع في مرحلة النضج وأوج العطاء.
انتحار المبدعين والفنانين والأدباء، ليس حالة جديدة في وسطنا الثقافي؛ فهناك نسبة كبيرة منهم أنهوا وجودهم مع شديد الأسف، عبر مختلف الأزمنة المغربية.
غير أن هناك انتحارا من نوع آخر، وقد بات سائدا في مجتمعنا، وهو ما يهمني الحديث عنه في هذه الورقة، يتعلق الأمر، بالتوقف عن الإنتاج، أو العزوف عن نشره.
يحدث ذلك في وقت باتت فيه سبل النشر متعددة وأكثر يسرا من ذي قبل، كما أن التواصل أصبح متاحا بصورة أفضل وأسهل.
حين إثارة هذه القضية مع بعض المبدعين المنتحرين – إذا جاز التعبير- غالبا ما تكون لديهم مبرراتهم وأسبابهم التي دعتهم إلى القيام بهذا الاختيار الذي يمكن اعتباره شاذا، في حين يرونه طبيعيا في وضع غير طبيعي.
هناك حديث في الغالب عن أن المناخ الثقافي غير سليم ولا يشجع على الاستمرار في الإنتاج، لا بل هناك من لا يتردد في نعته بالموبوء.
حين يتحمل أديب ما تكاليف طبع كتابه، ويعرضه للبيع، وتمر على عرضه شهور وسنوات، دون أن تقتنى منه نسخة واحدة..
حين يقوم مسرحي ما بتقديم عرضه الفني الجديد، ولا يحضره أحد إلا إذا كان الولوج إليه بالمجان..
حين ينظم فنان تشكيلي معرضا جديدا ويوزع دعوات الحضور لحفل افتتاحه، ويحضر المدعوون بالفعل، لكن اهتمامهم بالكوكتيل يكون أكثر من اهتمامهم باللوحات المعروضة، وإبداء الرغبة في اقتناء بعضها..
حين ينتبه مطرب ما إلى أنه حصل على الفتات فيما المطرب الأجنبي الذي يشارك معه في الحفل ذاته، أنه تسلم شيكا سمينا، حتى قبل أن يصعد إلى المنصة..
حين يحظى السينمائيون الأجانب بتقدير زائد عن اللزوم في مهرجانات وطنية، ولا يكاد يأبه أحد لسينمائيينا، رغم الاعتقاد السائد لديهم بأنهم بلغوا الشهرة والنجومية داخل وطنهم على الأقل..
حين يصاب المبدع أو الأديب أو الفنان بالخذلان من طرف من كان يتوهم أن لديه معهم اهتمامات مشتركة..
حين.. وحين.. وحين يحدث كل ذلك، وما يماثله من أحداث؛ فإن انعكاسه يكون سلبيا جدا على هؤلاء، وبالتالي فإن النتيجة ستتمثل في وضع مسافة بينهم وبين الإنتاج الإبداعي والفني؛ فهم لا يمكن لهم تحمل مزيد من الصدمات والإحباطات.
لكن هل هذا الاختيار في حد ذاته يعد صائبا؟
هناك شيء اسمه النضال، ولعله كان أجدر بهؤلاء المحبطين أن يغيروا الوضع، من خلال التكتل واقتراح حلول وبدائل.
لا يمكن مثلا، إقناع القارئ بالإقبال على اقتناء الإصدارات الجديدة، عن طريق التوقف عن إنتاج هذه الإصدارات في حد ذاتها.
إنه إذن شكل آخر من أشكال الانتحار، وهو أخطر أشكال الانتحار، والأكثر إصابة بالعدوى من غيره؛ فالمنتحر ماديا، يكون أمره قد انتهى، ولا ننتظر منه أن يبدع لنا إنتاجات جديدة، لكن المنتحر معنويا، مستمر في الوجود، إلا أنه في الآن ذاته غير موجود ولا يكف عن نشر دائه المعدي، المتمثل في العدمية والتشاؤم والإحباط، بين صفوف أغلب رفاقه في درب الإبداع.
عبدالعالي بركات