صدر عن مطابع الرباط نت مجموعة قصصية بعنوان “لعبة المشانق” للقاص عبد الله زروال، تمتد على مدار تسع وسبعين صفحة، محتوية على عناوين عبارة عن بوصلات لقصصها ( رؤوس، أوراق من عجين، الدار العالية .. الدار السافلة، مقهى التناوب، لعبة المشانق، الحائطي، مواجع …). وهي في كلها قصص تتعلق بالظلال والهوامش، في تركيز على المفارقات في العيش والتصور. لهذا، فالشخوص إشكالية في هذه المجموعة من قبيل الطالب وأصحاب المهن المقنعة .. فضلا عن مفارقات وليدة المشهد الجمعوي والثقافي، وبالأخص رصد ما يحدث في الندوات والعروض المسرحية. في هذا الصدد، يغلب ظني أن الكاتب اختار نماذج من اليومي، في تتبع دقيق للحركات والسكنات؛ حتى كأن الأمر يتعلق بمشاهد يومية، تقدم على لسان الشخوص. في هذه الحالة، يتجلى دور السارد في العرض و التنسيق، وتوجيه الأحداث، لتتشابك، ولا تنتهي بحل أو انفراج؛ بل بصدمة تعمق النظر والتأمل. ورد في قصة “رؤوس” من المجموعة قيد النظر: “وجم صاحبي، ظل قابعا في مكانه، فيا التف الجمع حول رأس المائدة يتجاذبون بقايا الكلام، أما أنا فما أن آنست منهم غفلة حتى بارحت المكان، وعدت من حيث أتيت أفكر في كل الرؤوس التي رأيت، ولما ابتلعتني أمواج الرؤوس المتدحرجة المتلاشية في الأفق خيل لي أن رأسي ينتفخ كالبالونة، ثم ينفصل عن جسدي، و يطير بعيدا في الهواء، تحسست رأسي وحمدت الله.
كان رأسي ما يزال على رقبتي.
كانت رقبتي ما تزال راسخة في جسدي”.
الكاتب عبد الله زروال لا يغامر بعناصر الحكاية، ولا يتوغل في تجريب لا يفضي إلا لنفسه من خلال تخريب أصول الحكي دون بديل أو أفق سردي حقيقي. وهو بهذا على وعي دقيق باختياره الجمالي، المتجلي في الحفاظ على آليات الحكي من حكاية تتخذ بناء خطيا يتطور للأمام، في تعميق للحمولات الاجتماعية والنفسية للشخوص. هنا نلاحظ الاهتمام الدقيق بالمظاهر والحركات وكذا الملامح. لأن الواقع لا يتمثل في ما هو خارجي فقط، بل يتقعر في الحالة والموقف. الشيء الذي يجعل الواقع والمعيش ينطوي على غرابة تقتضي الاصغاء لما يعتمل في النفسيات و الحالات. هنا نرى المجموعة مركزة على الأفعال أو تحركات الشخوص المتصادمة، ضمن تفاصيل متناقضة الخلفيات. فبدت الشخوص المغلوبة على أمرها تنوء في هذه القصص تحت وطأة ظروفها، وأيضا تحت حمولاتها الفكرية والفهم الخاطئ للواقع. نقرأ من قصة “الحائطي”:
“قال أولهم:
بل الرجل أريحي النفس ، فياض الكرم ، أذكر أنه جاءنا في أول ليلة بالعشاء ، و قال لنا : لا تفكروا في حريرة رمضان.
قال الثاني:
الرجل على غير ما ذكر ، وجدته واسع الاطلاع، ألمعيا، متقد الذكاء، ويبدو أنه كانت له صولات و جولات في شتى الدروب، لقد وعدني بإحضار كتب نادرة ميزتها عمق التفكير، وجرأة الرأي.
قال الثالث:
ـ هو رجل ناصح أمين نفخ في نفوسنا روح الرجاء ، وحذرنا من السقوط في براثن التشاؤم القاتم ، و الانزلاق إلى هاوية الاحباط القاتل ، و حفزنا على المثابرة و السير قدما بكل ثبات في درب النجاح.
…….
في اليوم الموالي لما عاد الطلبة توقفوا في ناصية الحي، نظروا إلى الجدار، فلم يجدوا الحائطي. قال قائلهم:
ـ مسكين لقد التهمه الجدار”.
المجموعة وهي ترصد مشاهد من اليومي، في تركيز على رؤوس المفارقات؛ نرى الكاتب مهتما صمن سرده الخطي بعناصر السرد، معمقا إياها من خلال رصد الجوانب المختلفة للشخوص ( مظاهر، ملامح، عمق، لغة …). ساعيا إلى تقديم صور متكاملة دون بتر أو تقضيم مؤثر؛ حتى لكأن لهذه الشخوص كيان متكامل التكوين في الحكاية، له إحالته على واقع. وامتد ذلك للوصف في سعي إلى خلق مناسبة بين الموصوف والصفة. فتأتي الصفات في علاقة جدلية مع الأفعال و التحركات.
يبدو، أن هذه القصص بنيت على مشاهد، لها أكثر من صلة بمرجعها. لكنها تثير مشكلات وأسئلة. وهي بذلك ترفع من صوت الأشياء التي لا صوت لها. وما أثارني أكثر في الحوارات الحاضرة بشكل كثيف في هذه المجموعة، حضور صيغة اللغة الدارجة. لكن الكاتب يحاول تليينها لتنخرط في مجرى السرد. وهو في هذا الصدد يسعى إلى الحفاظ على الملامح الأساسية للشخوص باعتبارها منغرسة في بيئة ذات اكراهات لا تحصى من أمية، وتصورات. إنها استعمالات سارية في حوارات تبني القصة بدورها، من خلال تعدد صوتي في القصة الواحدة. الشيء الذي خلق دينامية أخرى؛ كون الأحداث مجرد تعلة، لتمرير قضايا وتساؤلات.
أتابع مسيرة هذا الرجل المهووس بالتعبير عن الواقع في المفارقة و الغرابة. وهو بذلك يسعى إلى الفضح بسرد يقول ويشير عوض الانخراط في تجريب يقتل هذا الواقع و يقفز عليه. لهذا نرى صديقنا عبد الله في كياسة، تعمق عناصر السرد من شخوص وأمكنة وأزمنة، ساعيا إلى خلق تفاعل داخلي بينها، لمنح وحدة فنية للعمل. وفي كثير من كتابات الأشباه، نجد أنفسنا أمام أعمال مفككة، بدعوى التجريب الذي غدا تخريبا.
ويمكن ختما، أن نستحضر هنا عنوان المجموعة ” لعبة المشانق” الذي يقر سردا أن كل منا يسعى إلى شنق شيء ما. ويغلب ظني أن هذه الأضمومة تسعى لذلك، إذ قامت بشنق مفارقة معيشية في كل قصة، من أجل ولادة السؤال حولها.
> بقلم: عبد الغني فوزي