رحيل أسامة أنور عكاشة يخلف فراغا في ساحة الدراما المصرية
قدم الكاتب أسامة أنور عكاشة الذي فارق الحياة نهاية الأسبوع الماضي أعمالا كثيرة وخالدة للدراما العربية والمصرية غير أن أهم إنجازاته ستظل كونه أول كاتب سيناريو نسبت إليه أعماله الدرامية قبل أن تنسب إلى مخرجيها أو النجوم الذين يظهرون فيها مما أعاد ل”الورق”, كما يقول أهل الفن, منزلته كأحد أهم دعائم الإبداع الدرامي. فإذا كان أول ما يتذكره الجمهور المصري والعربي عموما عند ذكر أي من الأعمال الدرامية التلفزيونية أو السينمائية هو إسم مخرجها أو النجم الذي أدى دور البطولة فيها فإن أول إسم يحضر إلى الذاكرة عند الحديث عن “ليالي الحلمية” أو “الشهد والدموع” أو “أرابيسك” أو “امرأة من زمن الحب” أو “الراية البيضا” هو أسامة أنور عكاشة كاتب السيناريو الذي كان مجرد ورود اسمه في الجنيريك ضمانة لنجاح أي عمل تلفزيوني.
وقد امتازت أعمال أنور عكاشة بالخصوص بكونها عبارة عن طبقات متتالية من التشفير أو الترميز الدرامي, إذ يبدو أن الكاتب يأخذ بعين الاعتبار تعدد مستويات التلقي لدى الجمهور الذي تجد كل فئة منه ما يلبي رغبتها في العمل الواحد وفق إمكانياتها وقدراتها على تفكيك الرسالة.
فمن متابع لقصة شيقة رومانيسة أو تراجيدية, إلى محلل لرموز دفينة في الحوار وفي المشهد تتجاوز مجريات القصة /الحكاية, إلى باحث عن إسقاط لكل حركة أو كلمة.
كما أثبت الكاتب الراحل بالخصوص تفوقه في مجال التأريخ الاجتماعي للمجتمع المصري ورصد تغيراته من خلال أعمال درامية تناولت “الأسرة” (الشهد والدموع), أو الحارة (ليالي الحلمية بأجزائها الخمسة)… غير أن ما ميزه عن غيره في هذا المجال هو كونه يؤثث الحكاية ويرسم الشخصيات بشكل يجعلها قابلة للحياة في أي بيئة عربية أخرى ليصبح التاريخ الاجتماعي لمصر والحارة المصرية مجرد دعامة لقصة وحكاية وعبر واستنتاج وإسقاطات قد تتجاوز فضاءها الأصلي المحدود.
ومن بين أبرز ما طبع تجربة أسامة أنور عكاشة في التأليف الدرامي أيضا هو نجاحه في تقديم ما يمكن وصفه ب “بورتريه نفسي” دقيق التفاصيل لشخصياته وهو ما برز بشكل واضح في مسلسل “أرابيسك” حيث يكاد العمل يخلو من حكاية خطية ممتدة في زمان لبطل أو أبطال العمل.
فالمسلسل عبارة عن صورة مقربة للشخصيات ولتشابك علاقات اجتماعية داخل فضاء محدود في مدة زمنية محدودة تقرب المشاهد, بشكل فريد, من الحالة النفسية لكل شخصية وكأنه يرصدها من الداخل.
ويعود الفضل أيضا لأسامة أنور عكاشة في تفجير طاقات إبداعية في الدراما المصرية حيث كانت الأدوار التي كتبها طريقا لبروز كبار نجوم التمثيل في مصر, كيحيى الفخراني وصفية العمري وصلاح السعدني وآثار الحكيم وممدوح عبد العليم وهشام سليم, الذين ارتبط بهم الجمهور بشكل أكبر بعد “ليالي الحلمية”.
غير أن هذا الغوص في الشخصيات لا ينسي الكاتب الإطار العام لمجرى الأحداث حيث يحمل كل عمل رسالة كامنة تتجاوز الأسرة والحارة إلى بلد برمته, وربما إلى أمة بأكملها (سؤال الهوية في مسلسل “أرابيسك” مثلا.
وإذا كان التعبير غير المباشر, وهو ضرورة فنية في المقام الأول, قد مكن الكاتب من تصريف مواقفه السياسية دون الاصطدام الحاد بأي نوع من الرقابة سواء الرسمية منها أو من قبل من لا يشاطرونه نفس الرؤى فإنه لم يركن إلى هذا الهدوء بل كان يعبر عن مواقفه بشكل مباشر وصريح في مقالات وأعمدة في الصحف المصرية كانت غالبا محط جدل.
فأسامة أنور عكاشة, الذي لم يتورع في البوح بمراجعاته الفكرية, كان يكتب في الصحافة المصرية بشكل صريح ومباشر جدا بالرغم من أنه يعرف, كما قال في عمود كتبه في صحيفة “الوفد” قبل رحيله بأيام, أن “كل خطوة (في هذا الدرب) تحمل نذيرا بانفجار لغم .. وانفجار غضب (..) سيغضب مني الجميع, وقد لا أرضي أحدا, وربما كان هذا دليلا على أنني أقول الحقيقية ومرحبا بكل الألغام”.
لم يحقق الكاتب الراحل النجاح نفسه في السينما ربما لاختلاف ظروف الإنتاج وضغوط السوق السينمائية. ولم يقدم للشاشة الكبيرة سوى بضعة أفلام (كتيبة الإعدام, تحت الصفر, الهجامة, دماء على الإسفلت, والطعم والسنارة).
كما كتب الراحل عددا من المسرحيات منها “اولاد الذين” و”الليلة 14″ و”في عز الظهر” و”الناس اللي في الثالث” فيما كان نصيب السرد من إبداعه بضع روايات منها “وهج الصيف” و”منخفض الهند الموسمى” و”أحلام في برج بابل” ومجموعتين قصصيتين (خارج الدنيا, مقاطع من أغنية قديمة(.
ولعل ولع الكاتب الراحل, خريج كلية الآداب عام 1962, بالسرد رواية وقصة هو الذي مكنه من أن يثبت أن الكتابة الدرامية جنس أدبي قائم الذات قد تختلف أدواته لكنه يقدم نفس الجماليات إلى درجة يمكن معها الحديث عن مشاهدة أعمال أسامة أنور عكاشة أو عن قراءتها بحد سواء ولدرجة أن الجميع كانوا يتحدثون عن الكاتب وليس عن “السيناريست” كما هو الحال مع آخرين.
وكان آخر عمل أو مشروع للكاتب الذي وصف بكونه “نجيب محفوظ الدراما المصرية” هو مسلسل “المصراوية” الذي بقي مبتورا حيث لم يمهل القدر أسامة أنور عكاشة ليخط جزءه الثالث.
“كل خطوة (في هذا الدرب) تحمل نذيرا بانفجار لغم .. وانفجار غضب (..) سيغضب مني الجميع, وقد لا أرضي أحدا, وربما كان هذا دليلا على أنني أقول الحقيقية ومرحبا بكل الألغام”.