هَلْ نَحنُ مُنْتسِبُونَ ثقافِيِِِا إِلَى عَصْرنا؟
«سلطة الثقافي والسياسي» كتاب جديد لعبد الحميد عقار (منشورات المدارس 2010) عبارة عن حوارات واستجوابات ومقابلات صحفية أعدّها للنشر بعدما انتقاها من بين عشرات أخر تمتدّ من 1984 إلى حدود 2009؛ ينشغل عبد الحميد عقار في هذه الحوارات بمواضيع ثقافية وفكرية واجتماعية عامّة حدودها: الأدب والسياسة والسلطة؛ وآفاقها:التربية والحرية والإصلاح والتطرّف والأدب والمواطنة والديموقراطية والهوية والتنوّع الثقافي والتحديث …من هنا قيمة هذا الكتاب وغنى إسهامه، نصغي فيه إلى عبد الحميد عقار مباشرة يعرض لآرائه، يتأمّل ويحلل أفكاره بدقة ووضوح. نتعرف في هذه الحوارات على قناعاته واهتماماته بالشأن الثقافي وأدواره في السياسة العمومية وفي إغناء التجربة الإنسانية بشكل عامّ؛ من هنا إمكانية قراءة هذه الحوارات بوصفها شهادة مثقف يعبّر ويتحدث إلينا بكلامٍ غير مكرور أو جاهز، غير سطحي أو تبريري.
في هذه الحوارات يجادلُ عقاّر ويُحاجج ويُساجلُ أطروحات مختلفة مدارُها الدولة والمجتمع والذوقُ… يُجادلُ بدون تحفظ؛ ويحاجج من غير أن يُطلق الكلام على عواهنه كما يفعل محترفو مهرجانات الكلام؛ ويُساجل بوضوح؛ بلا تردّد يقول عبد الحميد عقار رأيهُ.
بالإمكان قبل عرض محتويات هذا الكتاب تقديم بعض المعطيات المنهجية التي تميّز التحليلات النقدية والأدبية لعبد الحميد عقار، استخلصتها من جملة ما قرأته له:
1- تحليلات عبد الحميد عقار هي دوما عمليات لتفسير لُغز.
2- تُحرّك عقار حين يفكّر في الأدب رغبات وليس رغبة واحدة.
3- هناك دوْما فجوة يتركها عقار في تحليلاته قصدا، هي مكافأته التي يستفزّ بها قراءه.
4- الروايةُ لديه دائما جمْعٌ: لغات، أصوات، أفكار وجغرافيات.
5- ينشغل في كتاباته النقدية بمفهوم الجسْر. لذلك يبحث عبد الحميد عقار في الأقصى، أقصى ما يمكن أن يصله: حرّية الفرد.
6- يقرأ من حين لآخر وبإعجاب: سيرفانتيس، دوستويفسكي، نجيب محفوظ، ميلان كونديرا، كارلوس فوينتس، عبد الله العروي، ومحمد شكري…
7- هو بالنسبة إليّ ناقدُ الحواسّ: العيْن والأذن والذوق.
في علاقة بما سلف، تكتسبُ الأطروحة الأساسية في حوارات عبد الحميد عقار أهميتها من طبيعة موضوعها الغني والمُعقّد، حين تتجادل سُلطتان وعيا اجتماعيا مخصوصا: الثقافي والسياسي. السلطة بهذا القصد شرط محفز وقوّة مُحرّكة للفعل؛ وكتاب عبد الحميد عقار يقترب من فهم دواعي المجادلة بين هاتين السلطتين ضمن فضاء ثقافي عربي ومغاربي ومغربي يبني مشاريعه الثقافية والسياسية بالتباس وتحفّظ وتوتّر مع قيم العصر والحداثة من أجل الانخراط في زمن العالم؛ هذا أحد المداخل الأولية لمناقشة الثقافي والسياسي عندنا. يتحدث البعض عن تبعية الثقافي للسياسي أو استقلاله عنه، ويتحدث البعض الآخر عن هيمنة السياسي على الثقافي؛ وفي جميع الأحوال، فإن الثقافة هي في كلّ العصور إرْباكٌ للتوازنات القائمة، إرباكٌ لناظم السلطة. ولأن الثقافة سياسة وسلطة، يغدو السؤال التالي مُبرّرا: ما هو الشيء السياسي في الثقافي؟ للإجابة على هذا السؤال ينبغي الاهتمام باستخلاص الرؤية الفكرية التي تنتجها النخب من أجل فهم كيفية تطوّر المجتمع، والآثار السلبية لتطوّره، وعوائق التطوّر الموجودة حتما.
يُجمع مؤرخو الفكر السياسي والثقافي بالمغرب أنّ مرحلة الأربعينيات من القرن الفائت عرفت بروز «المثقف الوطني» الذي طبع المرحلة بنضاله ضدّ المُستعمر بغية نيل البلاد استقلالها وحريتها؛ وأن مرحلة الخمسينيات والستينيات عرفت بروز»المثقف الملتزم» والمتطلّع لقيم الديموقراطية والمدنية والتي تقتضيها راهنية بناء الدولة الحديثة؛وهذه مرحلة موصولة بأخرى برز فيها «المثقف العضوي» في العقد السبعيني والحالم بتوفير عالم مغاير تسودهُ قيمُ العدالة الاجتماعية والحرية وحقوق الإنسان.ثمة رسالة تنويرية محورها الوطن والإصلاح تسمُ المرجعية الكبرى لتلك الرؤية الفكرية التي أنتجتها النخب الثقافية وهي تُبلور مشروعها الاجتماعي والسياسي. نعلم جيدا أن المجتمع ولكيْ يتمكن من إنتاج هذه الرؤية، على النخب أن تكون بالفعل مُحرّكا فاعلا للدينامية الاجتماعية والسياسية في الأحزاب والنقابات والهيئات والجمعيات الثقافية…
المثقفون، في رأي عبد الحميد عقار، شريحة اجتماعية يفترض فيها امتلاك طاقة معينة من الفهم والإدراك، وحساسية خاصة وحادّة تجاه القضايا المركزية للمجتمع في سيرورته، وشعور بوجود بوُجود رسالة تضطلع بها هذه الشريحة انطلاقا من انخراطها في أشكال من الصراع ومن تبادل الأخذ والعطاء، ومن ممارسة الإنتاج والنقد على السواء (ص 81)؛ بهذا المعنى، تكونُ السياسة من اختصاص المُثقف وليس اهتماما خاضعا للنزوة والصدفة.
لا يكفّ عبد الحميد عقار على التأكيد أن المثقف في المغرب يواجه، في الآن ذاته،الحاجة إلى ترسيخ الإبداع الثقافي والحاجة إلى أن يكون له دوْر في الصراعات المجتمعية والسياسية… والتوفيق بين قيمة الإبداع ووظيفة الحُضور والانتماء (ص82)، وهذا ما يؤكدهُ دور الثقافة في عملية التطوّر التاريخي، مما يسمحُ بتبيّن الوعي التاريخي للنخبة، وهو مُهمّ لاختراق الزمن الثقافي.
ورغم ذلك، يبدو العمل الثقافي محدود الفعالية بالنسبة للرأي العامّ. أ لأنّ الثقافة من حيث الإنتاج فعلٌ نخبوي، ولكنها من حيث الامتداد ومن حيث احتمال الجدوى والتأثير تصبحُ فعلا مجتمعيا (ص83)؟ نعم،المثقف مطالب بأن يكون له صوت في دينامية المجتمع،وأن يساهم من موقعه وبأدواته ورؤاه وحدوسه كذلك (ص97).
يقترن الحديث عن المثقف في حوارات عبد الحميد عقار أيضا بالمؤسسة الثقافية، وحديثه هذا نابعٌ من تجربة خصبة وغنية راكمها منذ منتصف السبعينيات في العمل الجمعوي؛ يتجلّى من هذا المنظور، أن حديث عقار عن الثقافة وقيمة المؤسسة الثقافية يراهنُ على «الفعل الثقافي» لأثر يبقى ويدوم لأنه أكبر من الرهانات الظرفية،وأكبر من شعارات عابرة. يلامس هذا الفعل في حوارات عقار قضايا التربية والتعليم والقراءة والإعلام والإرهاب، مما يعني أن الحديث عن الثقافي والسياسي يقعُ (على نحو عام) في ملتقى تقاطع العديد من الخطابات والتخصصات السوسيولوجية والسياسية والحقوقية وغيرها. بل إن الثقافي لم يعد مقتصرا – بهذا القدر أو ذاك – على وسم الإبداع الفني والأدبي بمختلف تنوعاته اللغوية والإثنية حتى، بل أضحى مجالا لبحث أسئلة الهوية والانتماء و»علة» وجود الفرد والجماعة. لهذا الوعي المنفتح للثقافة والثقافي في عالم اليوم تهديدات وأخطار، لأن التثاقف أمسى من الناحية الفكرية وحتى من ناحية المناقشات العمومية فضاء لإساءة الفهم بدل محاولة الفهم،وتعميم قيم متصادمة تغذي الاختلاف بحدّة، عوض التناغم والتجاوب المطلوبين.
لا يكتفي عبد الحميد عقار في هذه الحوارات بتقديم أجوبة على أسئلة محاوريه، بل إنه (بين الفينة والأخرى) يطرح أسئلة آنية ومُبرّرة:
كيف تصبح بلادنا بلاد مؤسسات حقيقة وقانون وديمقراطية، وأن يكون للثقافة دورٌ فعّال إلى جانب السياسة وباقي المجالات ذات التأثير؟ (ص 100). بهذا السؤال وغيره يفكّر عبد الحميد عقار في المغرب الثقافي، وفي وضع المثقف ضمن صيرورة الواقع الاجتماعي وتوترات السياسة، وحتى ضمن الأزمنة الفارغة التي تعمّق الشعور بالأسى والإخفاق: هل هي أزمنة مغرب اليوم؟
يؤكد عقار أن المثقفين في المغرب لم يتشكلوا بعد باعتبارهم أنتلجنسيا، هم في رأيه فئة اجتماعية لها العديد من الانشغالات والقضايا والقواسم المشتركة، ولكنها ليست مشكّلة بوصفها أنتلجنسيا لها قوّة ضغط متبلور حول مجموعة من الإصلاحات المركزية (ص100/101)؛ وبالتالي، فالمغرب ككلّ، بوصفه مجالا للتفكير والتأمل، ومجالا للعيش، لا يزال يحتاج إلى ثورة حقيقية على جميع الأصعدة والمستويات… لا زال المثقف في عالم اليوم وبشكل أقوى مطالبا بأن ينخرط في دينامية التحولات التي يشهدها المجتمع.
لا تنقطع التطوّرات الثقافية بالضرورة عن التطوّرات السياسية، هذا ما أكده عبد الله العروي منذ فترة مبكّرة في «الإيديولوجية العربية المعاصرة»، مما يجعل من الثقافة أداة معرفة ومساءلة؛ من هنا لا مجال عند عقار للتنازل عن معانقة فكر الحداثة والعقلانية، لأنه فكرٌ قادر اليوم على تخطّي المفارقات الكبرى السائدة في المجتمع. وإذا لم يثق المغاربة في فكر التجديد والحداثة، فسيظل التردّد هو سيد الموقف،وهذا أيضا،هو مجال اشتغال المثقف (ص250).
لكن، كيف ولماذا أصبحت الثقافة كلمة مائعة وغامضة؟
علينا أن نكون واضحين أنه كلما فتح النقاش عن الثقافة في هذا البلد إلا وظهر كتبة آخر زمان يدبجون أعمدة ومقالات سوريالية إما لجلد الذات أو سلخها، أو التنفيس عن مكبوتات، وأحيانا إذا صادفت أحدهم في الشارع ينظر إليك كما لو أنك أكلت له مال أبيه.
كتابنا على غير وِفاق مع الحياة.
وإني أرى القبح في كلّ شيء يأخذ مكان الجمال بيُسْر.
يمرّ اليوم والأسبوع والشهر والعام ويعشعش الخلل والعُصاب في الرؤوس والنفوس، من المسؤول الأوّل إلى الشاعر المحتمل، وعلى وقعهما لم يعد للثقافة مكان في البيت والشارع والمدرسة والجامعة والجمعية.
الثقافة مظهر من مظاهر حبّ الوطن.
لكن الأمر مخجلٌ جدا أن ينحدر حسُنا الثقافي إلى هذا الحدّ في زمن سطوة المحتالين والسماسرة ولغط اللاغطين.
لقد أصبح الهواء فاسدا، أقصد الهواء الثقافي طبعا: هل نحبس الحرقة في أنفسنا ونمضي؟ أم نزكي الوضع ونكون «مخلوقات وديعة» بتعبير الأديب الألمعي عبد الجبار السحيمي؟
في كتاب عبد الحميد عقار «سلطة الثقافي والسياسي» معطيات للإجابة على هذا السؤال.