– الكتابة الأدبية والعالم الرقمي:
لقد أحدثت الثورة التكنولوجية تحولا جذريا في الحياة الاعتيادية للإنسان حتى أضحى التعامل مع الوسائط الالكترونية جزءا لا يتجزأ من الممارسة اليومية، فتحولت تبعا لهذا مجموعة من المفاهيم والسلوكات والعلاقات التواصلية والتفاعلية، فكان الانخراط في هذا العالم المتحول ضرورة معرفية وحضارية، وكان لزاما على الأدباء والمبدعين مواكبة هذا التطور الرقمي باعتباره قفزة نوعية في مجال التواصل الذي يعد مكونا مهما في العملية الإبداعية، وبالتالي فوسائل العولمة وتقنياتها ستسهم في نشر الأعمال الأدبية وتنويع القراء والمتلقين، وهذا ما نلحظه بشكل لافت على مواقع التواصل الاجتماعي وقبلها على المواقع الإلكترونية المتخصصة منها في الأدب والنقد أو العامة والمشتملة لمجموع الأنشطة الفكرية الإنسانية.
وهو ما أضحى يعرف بالأدب الرقمي كما يعرف بالأدب الإلكتروني والأدب التفاعلي وغيرها من المصطلحات التي تبين مدى اضطراب المفهوم واختلاف النقاد بشأنه، فهو أدب نشأ من رحم التكنولوجيا باعتماد مجموعة من المعايير والقوانين الرقمية، ويحقق وجوده عبر تفاعل القراء، فتطَور النشر الرقمي وأنشأت مواقع نشر إلكترونية، فبعضها تنشر الكتب إلكترونيا بعدما نُشرت ورقيا، ومنها ما تقوم بنشره إلكترونيا فقط، مثل “دار ناشري للنشر الإلكتروني”
وتأسيسا على ما سبق، خصص الكتاب والمبدعون لأنفسهم صفحات تواصلية ينشرون عليها ما ينتجون من نصوص وينتظرون تفاعل القراء معها، ويترددون عليها بشكل سريع وفوري ليقيسوا حرارة التفاعل بين النص والقارئ، وهنا نطرح مجموعة من الأسئلة حول: من يكون هذا القارئ؟ وهل يمكن إدراك مستواه الفكري والأدبي؟ وهل فعلا قرأ النص وتلقاه؟ ثم أي نوع من التلقي هو، أهو مجرد قراءة عمودية؟ أم مجرد قراءة اسم الناشر أو الناشرة؟ أم هي قراءة ذوقية أم واعية نتجت عنها نقرة إعجاب أو تعليق ما؟ لنتساءل بعد ذلك أيضا عن التعليقات ونوعيتها، وهو ما يحتاج إلى دراسة ومتابعة نقدية مستجيبة لمنهجيات البحث، الأمر الذي لا يزال متخلفا في الحقل النقدي العربي.
2 – فعالية النشر الرقمي وإكراهاته:
إن من بين الامتيازات التي يحققها النشر الرقمي للأدب هو الانتشار السريع والآني للمنشورات الأدبية، نأخذ على سبيل المثال مواقع التواصل الاجتماعي التي يكون التفاعل خلالها آنيا وجماعيا، ففي اللحظة نفسها التي يضغط فيها الكاتب على زر “نشر” publier أو “مشاركة” partager”، يمكن لأكثر من ثلث الأصدقاء المتواجدين لحظتها من الاطلاع على المنشور، مما سيخلق تفاعلا سريعا عن طريق الضغط على زر الإعجاب، “j aime ” أو ” j “adore، وقد يتعداه إلى مشاركة العمل عن طريق زر”partager”، مما يسهم في توسيع دائرة القراء والمتلقين للعمل في وقت قياسي، أما بالنسبة للمواقع في تسهم في عملية تحميل الكتب ذات الأصل الورقي والمتحولة إلكترونيا، وهي عملية محمودة أكدت مجموعة من الآراء على فعاليتها خصوصا بالنسبة للكتب القديمة النادرة، إضافة إلى الكتب المنشورة أصلا رقميا لأسباب متعددة لعل من بينها الرغبة في نشر العمل سريعا وعلى جغرافية أوسع، دون إغفال مشاكل النشر الورقي وصعوباته.
إلا أن من بين الإكراهات التي تواجه النشر الأدبي الرقمي هي ظاهرة السرقة، فالنص الأدبي الذي ينشر إلكترونيا لا يتوفر على الضمانات القانونية الكافية التي تضمن حقه في الانتساب، فهو أبعد ما يكون على الحماية إذا ما وقع سطو عليه، فحقوق النشر بالنسبة للكتاب الورقي عموما هي محفوظة بحكم القانون المنظم لعملية النشر، وهو الأمر الذي لا يتحقق في الأدب الرقمي، إضافة إلى إشكالية القرصنة، دون أن ننسى أهم إشكالية تؤثر بشكل مباشر في قيمة العمل الأدبي وهو فسح المجال أمام النشر الرديء الذي ينتشر كالهشيم بسبب علاقات المحاباة والإطراء والإخوانيات.
3 – الأدب الرقمي وعملية التلقي:
يظل المتلقي في العملية الإبداعية من أهم المرتكزات التي يقيس من خلالها المبدع مدى تقبل الوسط الفني لإبداعه، إذ تقوم عملية التلقي كما تحدث عنها ياوس على شقين اثنين أحدهما متعلق بالاستقبال وثانيهما بتأثير العمل وأثره، وتعتمد هذه العملية طبعا على طبيعة المتلقي الذي يفترض فيه أن متمتعا بقدر غير يسير من الثقافة والخبرة في قراءة النصوص وتحليلها، مما يخلق تفاعلا بين النص والقارئ ويؤدي إلى بناء نص آخر، وعندما نتحدث عن الأدب الرقمي فإن عملية التلقي ستتحول بما يتناسب مع طبيعة النشر، ويتحقق التواصل والتفاعل مع النصوص الأدبية المنشورة على المواقع الرقمية بالقارئ الرقمي الذي يتصفح المواقع إما قصدا عن طريق البحث في المنشورات أو صدفة عن طريق بحثه عن موضوع ما ليجد نفسه مبحرا في غمار نص أدبي منشور على أحد المواقع الالكترونية، وبعد القراءة يدخل في عملية التفاعل عن طريق وضع الإشارات الدالة على تلقيه كالإعجاب والمشاركة، إلا أن التلقي التفاعلي سيصل مداه عندما يقوم المتلقي الالكتروني بوضع إشارات لغوية عبارة عن تعليقات، “commantaire “”، بدافع الرغبة في النص والتعليق، وهي علامات لغوية لا تكاد تخرج عن صيغ الإطراء والثناء، والمدح المبالغ فيه، من مثل “دمت مبدعا/مبدعة” “نص جميل” دمت متألقة/ متألقا” “دام توهجك” “أمتعتنا” … وأقصى ما يمكن الوصول إليه من صيغ لغوية تفاعلية مثل “صور شعرية رائعة” “أتحفتنا لغتك الماتعة وصورك المتفردة”,,,
والملاحظ أنها تعليقات تتخذ في مجملها سياقا واحدا وصورة مشتركة، وقد تختلف باختلاف جنس المبدع، حيث تتصاعد وثيرة الإعجاب بالنسبة للنصوص الأدبية النسائية، خصوصا إذا كانت مرفقة بمؤثرات أيقونية، فيربط المتلقي بين جمال النص وجمال صاحبته أو جمال الأيقونة المرفقة له، مما يجعلنا أمام أنساق لغوية متكررة تبين مدى التلقي العاطفي والانفعالي والانطباعي للعمل الأدبي الرقمي.
هذا التلقي الانطباعي سيؤثر لا محالة في العملية الإبداعية للكاتب وإنتاجاته المستقبلية، إذ سيزيد من قناعة الكاتب بأن ما ينتجه فعلا يستجيب لمقاييس الأدب وشروطه، ولعل المتصفح لما ينشر على صفحات الفيسبوك لنموذج واضح على فقدان السيطرة النقدية على ما ينشر، في ظل ما يعرف بالحرية والانفتاح والتحرر.
ختاما
إن هذا الانفتاح الكبير الذي أسسته الثورة التكنولوجية يصعب معها الضبط والمراقبة، إنه عالم الحرية والتحرر، حيث الكل مبدع والكل ناقد والكل يقول كل شيء ولا شيء، فضاع العمل الجاد وسط الغثاء وأصبح العالم يعج بالشعراء والمبدعين والأدباء وضاع الأدب والشعر والكاتب، فهل سيبقى الحبل على عواهنه؟ إن هذا الانخراط الكلي في عالم التكنولوجيا يجعلنا نتساءل عن مدى فاعلية الوسائط الرقمية في الترويج للأدب ونشر الإنتاجات الأدبية الإبداعية منها والنقدية، في وقت لا بد أن نفكر جيدا في التأسيس لحركة نقدية جديدة موازية للنشر الرقمي وهي حركة النقد الرقمي.
> بقلم: إلهام الصنابي