يبدو أن الحفر اللغوي المعجمي، والإتيمولوجي في عتبة الديوان، له أهمية بالغة في تقريب المتلقي من الفهم العميق للديوان، وبالتالي استيعاب المضامين والأبعاد الدلالية للقصائد المنضوية تحت هذه العتبة الجامعة.
بداية لا بد من الوقوف ارتكازا على بؤرة الدلالة حول المفهوم أو العلامة المتعلقة بـلفظ (حدوس).. هذه الكلمة المفتاح، تنتمي أولا إلى جمع الكثرة على وزن (فُعول) من الاسم (حَدْسٌ) => ج، حدوس/ فعول.. مثل (قلب، وبحر => قلوب وبحور…).. وإني لا أجد لهذا الجمع (حدوس) في معاجم اللغة العربية أثرا ولا ذكرا.. إلا ما ذكره واجتهد فيه الدكتور أحمد مفدي وهذا ليس غريبا عنه وهو المتضلع في اللغة العربية وقياساتها واشتقاقاتها.. وله مقصديته الدلالية التي سنتناولها في بحثنا لاحقا.
طفت في معاجم اللغة العربية مقلبا فيها النظر على ما يدلل لي الطريق للإحاطة بهذه الكلمة الآخذة بلب المتلقي وفكره من خلال ما وضعه الشاعر أحمد مفدي لعنوان ديوانه: (حدوس ابن عربي)، فوجدت في كتاب (التكملة والذيل والصلة) أن “الحدْس: النظر الخفي.. وهو الفراسة، وحدسه بسهم: رماه به، والحدّاس: الظّنّان” (1)وفي (ترتيب القاموس المحيط) الحدس: الظن والتخمين، والتوهم في معاني الكلام والأمور… والحدس: المضي على طريقة مستمرة.. وتحدّس الأخبار وعنها: تخبّرها وأراد أن يعلمها من حيث لا يُعلم به”…(2).
وأما الحدس في الفلسفة: فهو “المعرفة الحاصلة في الذهن دفعة واحدة من غير نظر أو استدلال عقلي. وهو شعور محدد بما لا نستطيع البرهنة عليه، أو بما لم يقع بعد. وهو أيضا المعرفة اللدنية. والحدسية: مصدر صناعي، يقصد بها من يرى للحدس المكان الأولى في تكوين المعرفة..” (3).
وفي معجم (متن اللغة): “الحدس: مصدر: الرمي وهو أصل المعنى.. والحدس: السرعة: والفراسة والنظر الخفي”(4). ونقرأ في (لسان العرب) نفس الشيء مما ورد في مادة “حدس” (5) وسقناه من معاجم أخرى استقصاء وتنقيبا فلم نعثر على جمع “حدوس” مما هو وارد في عنوان الديوان وأعتقده جازما أنه اجتهاد من الشاعر اليعربي أحمد مفدي.
وللشاعر أحمد مفدي “إضاءة” في هذا الباب تكشف بعضا من حجب الدلالة الخفية لإبصار المتلقي ما ينبغي أن يبصره من مكاشفات (الحدوس) حول ديوان “الحدوس”، يقول الشاعر أحمد مفدي وهو العارف بعوالم شيخ المكاشفين وسلطان العارفين الإمام المحقق محيي الدين بن عربي: “ديوان (الحدوس) نقلة من الإحساس بالجمال الظني الذي نحياه ونرتع في بساتينه غفاة، ونلتذّ بجماليات أفيائه سكارى بما تبدى إلى (الرؤيا)! حيث الإحساس بجمال اليقين حين يفيض بأنوار لا تدرك إلا بعد عناء وطرق أبواب لعلها تنفتح أو تتفتح بعد أن غلّقتْ، ولا تنفتح إلا لمن توضأ بنور الوجود المطلق، ليرى عالما من المحبة والصفاء! ويتطهر بالجمال الذي لا يفنى. إذا صفت النفوس وسمت الأرواح، سابحة في أنوار الأشواق الكمالية، التي تعِزّ على الوصف، وتتمنّع عن أن تدركها الأبصار ولا ترقّش مسطورة في صحائف لتقرأ بعين البصر، بل تقرأ بشفوف المحبة، واستبصار الآتي… واستجلاء ما تخفّى…” (6)ولهذا الديوان علامات ظاهر ة وجب الوقوف عليها، وأخرى خفية وجب التنقيب عنها في مضان النصوص ابتغاء فهمها فهما عميقا، والكشف عن أبعادها الدلالية.
علامات على باب الديوان: قال تعالى: “وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ”(7) إنما جُعلت العلامات للاستدلال بها نهارا لبلوغ القصد والمرام، وجُعلت النجوم للاهتداء بها في السبل، حالة الإظلام أو أثناء إشكال أمر على القاصد.. وقد وضع الشاعر علامات وسمات كأنها النجوم المتوقدة، هي منارات يهتدي بها المتلقي/ لخطاب شعري مشبع حد الامتلاء برمزية صوفية عالمة وعميقة المعنى، تستلزم من القارئ أن يتوفر على عبّارة واقية تمكنه من اقتحام بحر المعاني الخفية.
العلامات هي معالم يُهتدى بها إلى تأويل ما لم يستطع القارئ عليه إدراكا وفهما من حدوس شاعر امتلك نواصي الاستدلالات الصوفية، حيث جاءت قصائده مسبكة كشُهْد يقْطُر لذاذة من قيعان البيان اللغوي، وخوابي العرفان الصوفي التي لا ينتهي رواؤهما ولا تنضُبُ حلاوتهما.
*سيمياء الإهداء: هناك عتبات صغيرة، تنضوي تحت العتبة الكبرى للديوان، هي سيمات وعلامات يدلل به الشاعر سبل القارئ لأن يسري معه في آفاق الأنوار واكتشاف مخبوء الأسرار.. فجعل “الإهداء” نجما متلألئا ينير الطريق لسالك أنفاق الديوان.. فبين بداية، أن ما خطّه هنا في “حدوس” من أشعار، إنما هو خطابُ تواصلٍ ووصال، تواصل روحيّ وجدانيّ من الروح إلى الروح، من روح الشاعر أحمد مفدي إلى روح الشاعر مصطفى الشليح.. ووصال بين مدينتين مغربيتين عريقتين تاريخيا وصوفيا هما: مدينة فاس ومدينة سلا… ومنه “إلى مَنْ تعشّق السؤال نبضا، ليستقي من فيوض المحبّة كاس الوجود بباب العرفان! واهتدى على طريق العبور، فاتخذ (رواء اليقين) قرينا له ليكشف ما انطمر في ذات الوجود من محبّة وصفاء ونقاء، فأوقد في القصيد شعلة (الرؤيا) خارج لبوس العبارة!” (8).
سيمياء الإضاءة: لا شك أن الألفاظ أجسام في المعجم.. لها أرواح ساكنة هادئة، تنتظر من ينفخ فيها من ألق المعنى ما يحييها ويحيي بها،ما خبا في ضمير المتلقي من تفاعل وانفعال، وتيقظ واشتعال، والإضاءة من هذا المنطلق السيميائي، فتح وانفراج وسراج وهّاج، لمن أراد فتح الرّتاج، والتمسك بالمنهاج.
وقد آثر الشاعر أن يجعل “الإضاءة” مشكاة منيرة، وبَوْصلة على عتبة الديوان، بعد الإهداء، باعتبارها نصا موازيا يمنح المتلقي من بريق التأويل ما يوصله أكباد المعاني، ويهديه إلى سبر أغوار المباني. وقد احتوت الإضاءة كل معاني الإشراق و”أنوار الأشواق”.. و”استبصار الآتي” حيث “الرؤيا” التي لا تؤتى إلا للعارفين بها والسالكين في أنوار الحقية التي لا تدرك إلا للصفوة من أهل المحبة والصفاء.
* سيمياء “الحدوس”: وتجلياتها الصوفية في الديوان بديهي أن من عَشِق ابن عربي وارتاع في بساتينه، ونهل من شفوف الصوفية وحدوسهم، ألا يتكلم إلا عشقا وألا يتحدث إلا بقلب وجنان، ووجد ووجدان، مما أفاضوه عليه من معرفة ربانية وبيان… وحين يقلب القارئ النظر في الألفاظ التي رُكّبَت بها القصائد يجدها شاخصة تلقي بتجلياتها الصوفية/ “الحدسية” على النصوص المبثوثة في الديوان.
بنى أحمد مفدي قصيدته “حدوس ابن عربي”، مستهلا بها ديوانه، بناء شعريا عموديا يتماهى ولغة العشق الصوفي تماهيا لغويا ودلاليا، وقد ألبسها من العبارات الدالة ما تجلت به (رؤيا) الشاعر من شفوف المعاني وهو ينشد في صديقه مصطفى الشليح من البحر الطويل قائلا: “أتى مصطفى شوقا يقود المساقيا ويأبى من الراووق ما لاح خاوياأراك لـــظى شعر تفور معانيا كنهر أبي رقراق روّى المراسيا” (9).
* في دائرة سيمياء المعراج: ويستطيع المتلقي للقصيدة “المفدية” أن يلمح بجلاء ذلك الحبل الناظم للأنساق الصوفية، التي انتظمت النص الشعري، فاستوت على فضائه في سلسلة من العلامات الدالة على “رؤيا” صوفية إيحائية عاشقة للجمال والجلال في صوره البهية النقية.
وما “المعراج” هنا سوى (هزّة روحية) و(سفر وجداني) من عالم (المحسوسات المادية) وخلع نعال (المدسوسات الشهوانية)، إلى عالم الصفاء والتبتل، والشفوف والارتواء من بحر الأشواق بين صفاء النفس وصفاء الروح… يرتقي سُلّما في دائرة (المعراج)… وذلك حينما ينشد الشاعر (أحمد مفدي) في صاحبه مصطفى الشليح من الدرر ما يلي:
“سواك بمعراج الصفا من ذؤابة تذوب حياء في شفوف قوافيا وسر الخفاء في الغيوب جلاؤه فتوح، وحرف النون لا مناجيا يبيت بظهر الوجد حرفي يغازل عبيرا بباب الله بسّ الأعاديا”(10). ويزيد الشاعر ارتقاء وسموا في معراجه الصوفي باعتباره نقلة نوعية معنوية وروحية، من عالم العُفُنات المتلاشية إلى (مقامات الحدوس) والتطهر والتشوّف والتشوّق إلى عالم المخفيات الغيبية التي لا تدرك إلا بعروج الروح معارج الأنوار والأسرار… يقول الشاعر أحمد مفدي:
“وفتح الحيارى بالحدوس مقامهم بعين الوجود، فاستبانوا المراميا رآه الذي في سكرة من فيوضه بركن اليماني إن تماهى مناجيا إذا الرحل مالوا للفيافي فيمموا إلى زمزم يشهون شربا مخاويا فقالوا هنا نرقى مقاما نطوفه فتوحا (لمعمور) فصار المشافيا وعشقي إشارات الحبيب تبتلا إلى الله، كشف العاشقين الخوافيا” “(11) وهكذا تنتظم العلامات الصوفية، والعلاقات الدلالية في عقد من المعاني الروحية: (سواك/ معراج الصفا/ تذوب حياء/ شفوف القوافي/ سر الخفاء/ في الغيوب…/ فتوح/ حرف النون/ بظهر الوجد/ بباب الله/…)وغيرها.. وهي مفردات اللغة، التيتشكلت منها القصيدة على المستوى التركيبي، في علاقتها بمرجعية المعنى والدلالة التي يغرف منها الشاعر معجمه الصوفي، والتي أفصحت عنه عتبة عنوان قصيدته: (حدوس ابن عربي).
ومنها إلى قصيدة “(سلا) وأوراد العشق” حيث يمتد النسق الصوفي في شعرية القصيدة امتدادا عموديا/ تصاعديا، يعرج بعروج الروح نحو الآفاق الرحبة عروجا متناسقا، في وحدة صوفية كونية ووجدانية منسجمة،في بنائها اللغوي المحمّل بالإشارات اللفظية، وفي بنائها الدلالي الغامر بالإيحاءات، مستلهما من تاريخ التصوف ورجالاته وأشعارهم.. ما يؤثث به قصائد ديوانه، في أبعادها الفنية والجمالية والروحية.
إن المتلقي للقصيدة المفدية، يبصر لا محالة هذا التوارد الدلالي المتوالي، يتنزّل غيثا صوفيا على أبيات الشعر فتربو نضرة العطاء في صيغ الجمع المترادفة.. حيث (أوراد العشق/ حدوج الرحل/ تسمو الوصايا إشارة/ في المعارج/ شفوف يرشه/ ماء المرايا/…) إذ يتلو علينا من وجدانه في سجوده، وهو العارف بما خطر له (بباب الزوايا)حيث مدينة سلا محضن صديقه مصطفى الشليح:
“ولما تراءت في سجودي صبابة بباب الزوايا في (سلا) صرت غافيا وكانت (سلا) ماء تسامى ولاية (بحسون) قالت: أنشد الورد ساقيا قناديل فجر، إذ تجلي مفازة فإني بحصني، لا أروم الصياصيا تصير فيوض الوجد فينا (مشاربا) وشمعا، ينير القلب ما دمت شاديا وسور الزوايا في حنايا الموارد يمد البحار الهوج عصفا تواليا حجوب الهوى بين السدوم تنورت (12) بعشق الحبيب والخفا قد بدا ليا
وبما أن “الحدس” معجميا له دلالة “الفراسة”، فإن الشاعر أحمد مفدي، يمتلك خصيصة “التفرّس” وهي معرفة بواطن الأمور من ظواهرها، إذ لا ينال هذه المرتبة المقامية الروحية، إلا من حباهم الله بأنوار الكشوف ولوامع الشفوف، لأنهم “ينظرون بنور الله”كما جاء في كتاب “النهاية” لابن الأثير: “اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنّه ينظر بنور الله” يقال بمعنيين، أحدهما:ما يُوقِعُه الله تعالى في قلوب أوليائه، فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات، وإصابة الظَّنِّ والحَدْسِ، والثاني: نوع يُتَعَلَّمُ بالدلائلِ، والتجاربِ، والخَلْقِ، والأخلاقِ، فَتُعْرَفُ به أحوال الناس.”(13).) وهذا ما يلاحظه المتلقي من تجليات نورانية صوفية، على
المستوى اللغوي لمعجم القصيدتين: (حدوس ابن عربي) و (سلا) و(أوارد العشق)، يستطيع رصدها وبالتالي استخراج أبعادها الفنية والجمالية، وسيماتها الدلالية الأساسية ذات المعاني والمدلولات المميزة لخطاب شعري صوفي متفرّد.
هوامش:
1 – محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، “التكملة والذيل والصلة لما فات صاحب القاموس من اللغة” تحقيق، مصطفى حجازي، مراجعة، محمد مهدي علاّم/ ط. 1 1986/ القاهرة. ج/ 3 ص: 325
2 – الطاهر أحمد الزاوي، “ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة” دار الفكر/ ط. 3، ج/1 ص: 203
3 – جماعة من المختصين، إشراف أ. د. أحمد أبو حاقة، دار النفائس/ بيروت ? لبنان، ط/ 1/ 2007، ص: 351
4 – الشيخ احمد رضا، “معجم متن اللغة” موسوعة لغوية حديثة.. دار مكتبة الحياة ? بيروت 1958، مج: 2/ ص: 44، 45
5 – ابن منظور “لسان العرب” دار صادر ? بيروت مج: 6/ ص: 46، 47
6 – أحمد مفدي، ديوان: “حدوس ابن عربي” مطبعة وراقة بلال/ فاس، ط، 1/ 2019 ص: 9 – 10
7 – قرآن كريم، سورة النحل/ الآية 16
8 – أحمد مفدي، ديوان: “حدوس ابن عربي” مطبعة وراقة بلال/ فاس، ط، 1/ 2019 ص: 9 – 10
9 – أحمد مفدي، ديوان: “حدوس ابن عربي” مطبعة وراقة بلال/ فاس، ط، 1/ 2019 ص: 17
10 – أحمد مفدي، ديوان: “حدوس ابن عربي” مطبعة وراقة بلال/ فاس، ط، 1/ 2019 ص: 17 – 18
11 – أحمد مفدي، ديوان: “حدوس ابن عربي” مطبعة وراقة بلال/ فاس، ط، 1/ 2019 ص: 17 – 18
12 – أحمد مفدي، ديوان: “حدوس ابن عربي” مطبعة وراقة بلال/ فاس، ط، 1/ 2019 ص: 22 – 21 ? 23
13 – ابن الأثير، “النهاية في غريب الحديث والأثر.. تحقيق، د. أحمد بن محمد الخراط مط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية/ قطر، الجزء/ 7، ص: 3148 رقم الحديث: 11949-
> بقلم: عبد المجيد بطالي