أثارت بعض التجمعات والتظاهرات الغاضبة في الأراضي الفلسطينية احتجاجا على اجتماعات تمت بين صحافيين إسرائيليين وعدد من الأساتذة والمفكرين الفلسطينيين أخيرا، وكذلك مساهمة شخصية رسمية في أحد تلك الاجتماعات.
هناك تاريخ فلسطيني طويل حافل بمثل تلك الاجتماعات، والاحتجاجات عليها، والتي تمسّ وترا حساسا في ضمير الشعب الفلسطيني منذ الصدمة الهائلة التي تعرّض لها نتيجة لنجاح إسرائيل في إقامة وطن لها وسط المحيط العربي الكبير.
عكس الرد العاطفي في رفض تلك الدولة وعدم الاعتراف بها وبوجودها والتعامل معها، فشل الفلسطينيين والعرب في منع إقامة دولة إسرائيلية، والتقاعس عن إقامة دولة فلسطينية.
في غياب فلسطين بكل أبعادها السكانية والمجتمعية والجغرافية والتاريخية أصيب الفلسطينيون والعرب بما يسمّى في علم النفس بالرفض الكلّي المسيطر لكل ما تمثله إسرائيل بما في ذلك تداول وجودها واسمها، وأضيف لتسميتها منذ ذلك الوقت لقب المزعومة.
كان قد مرّ قرابة ربع قرن من الزمن عندما توقفت القيادة الفلسطينية عن سياسة الرفض الكلي التي كانت دعمتها سياسة وشعار لاءات الخرطوم الشهيرة (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض). وأصدرت موافقتها على لقاءات فلسطينية رسمية مع إسرائيليين غير الصهاينة، وتعرّضت هذه القيادة آنذاك لاتهامات ومسيرات غاضبة لموافقتها على بدء التواصل مع إسرائيليين.
وتمّت عدة لقاءات في دول أوروبية في نهايات سبعينات القرن الماضي، ودفع بعض النشطاء الفلسطينيين حياتهم لانغماسهم في ذلك الاتجاه، وتطوّرت اجتماعات الفلسطينيين مع الإسرائيليين غير الصهاينة في نهايات الثمانينات بتشجيع أوروبي وأميركي، وأحيانا عربي، إلى لقاءات مفتوحة بين الطرفين المتنازعين. وفي فترة تزايد فيها التصادم الفلسطيني الفلسطيني حول اللقاءات المفتوحة، والذي أشعلته بعض الدول العربية أيضا، طفت على السطح تعابير سياسية جديدة، وكانت كلمة التطبيع إحداها.
يعني التطبيع في الفقه السياسي اتفاقا بين دولتين مستقلتين أو عدة دول مستقلة على تخفيف أو إلغاء متبادل لقيود وقوانين سياسية أو سياحية أو إجراءات تجارية ومالية تتعلق بالاستيراد أو تخفيف إجراءات الدخول والخروج للدول المتعاقدة. ولا يتم عبر لقاءات فردية أو جماعية أو حزبية لأنها من اختصاص السلطة التنفيذية للدول المستقلة.
في كل قضايا النزاع على مدار التاريخ يتحتم أن يتقابل الطرفان المتنازعان وجها لوجه، سواء في ميدان القتال أو دواوين السلام أو الاستسلام. والحرب، كما قال العرب، أولها الكلام. والكلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين جار سواء أقبل الطرفان أو أدبرا.
وفي كل صباح يتبادل الحديث مئات الآلاف من الفلسطينيين والإسرائيليين في معظم المدن والقرى التي تحتلها إسرائيل وعلى الحدود، وفي أسواق القرى الفلسطينية من خلال عشرات الآلاف من المواطنين الذين يعملون في إسرائيل، ويتحادث عشرات الآلاف من قطاع غزة والضفة الغربية مع مسؤولين إسرائيليين لمعالجة أذون السفر والمرور والإقامة والعمل. كما يتحدث الإسرائيليون والفلسطينيون بالنار والرصاص والصواريخ والبالونات على الدوام. لماذا لا يملك الفلسطينيون حق الكلام عن بلادهم وأهدافهم؟
يتقابل مسؤولون فلسطينيون مع نظرائهم الإسرائيليين ويتحدثون بشكل معلن ومنشور، كما يتحدث المسؤولون من قيادة غزة مع نظرائهم من السياسيين والعسكريين والاقتصاديين الإسرائيليين من خلال الوساطة المصرية أو المساهمة القطرية، ولم يتم من خلال تلك الاتصالات تفريط في الثوابت ولا استسلام مهين.
إن عدم التواصل والتحادث مع الإسرائيليين يستوجب منطقيا قتالهم، الأمر الذي لا تستطيعه حركة حماس ولا حركة فتح، ولا تريده إسرائيل ولا غالبية دول العالم، لأن المصير معروف.
إن أهم الجهود المطلوبة للتقدم بقضية الشعب الفلسطيني وتحقيق أهدافه الشرعية هي العمل على إقناع العالم بعدالة قضيته. وأهم وأول من نتوجّه إليه لهذا الغرض هم أعداؤنا من الإسرائيليين، وأن نجتمع مع إسرائيليين يدعمون السلام ويدافعون معنا لتحقيق العدالة ومن الضروري أن نشكرهم على مواقفهم، ونجتمع مع إسرائيليين يجهلون نوايانا أو أهدافنا ضرورة أكثر أهمية لتنويرهم. ونجتمع مع عتاة الصهاينة والمتطرفين أكثر وأكثر أهمية للتأكيد لهم أننا لن نتوقف أو نتنازل عن حقنا.
الغاية من التواصل الإيجابي في هذا الشأن، هو ما نقوله وليس أين نقوله، ولا من يقوله أو كيف نقوله. يجب أن يكون التواصل الإيجابي وغير الرسمي بعيدا عن مشاركة أعضاء رسميين حكوميين، وتكون المشاركة قصرا على المؤهلين والقادرين على التصدي للنقاش وإبداء الحجة. أولئك الذين ليسوا طرفا في الصراع الفصائلي أو الرؤى الفصائلية التي يصعب على الفلسطينيين الاتفاق حولها وتنفيذها، لأن ذلك سوف يجعل الاندماج الأهلي في هذا النشاط غاية في الخطورة نتيجة لردود الفعل الصاخبة، كما تعوّد شعبنا من ممارسات الفصائل الفلسطينية المختلفة.
أول الموانع التي تقف عثرة في طريق أيّ نشاط أهلي للمشاركة في جهد يهدف لتقارب أو تفاهم أو حتى “تطبيع” مع الجمهور الإسرائيلي، هو أن الفلسطينيين لا يملكون قيادة واحدة، ولا سياسة واحدة، ولا تحالفات واحدة، ولا أهدافا واحدة، ولا يبدو أن هناك أيّ إشارات من القيادات المتنازعة لتصحيح هذا الواقع المؤلم.
وثاني موانع الفشل، هو أن الأفراد والجماعات المشاركة في الحوار مع الإسرائيليين لا تستطيع تطبيق التفاهم أو “التطبيع” لو تم التوصل إليه، لأن ذلك مرتبط بموافقة السلطة التنفيذية الشرعية العليا للقيادة الفلسطينية، ولدى الشعب الفلسطيني اليوم سلطتان تنفيذيتان لقيادتين مختلفتين سياسيا، ولا تتمتعان بأيّ شرعية فلسطينية.
قد يكون الأكثر توقّعا في الوضع الحالي أن يتم إنجاز التفاهم أو “التطبيع” بشكل مختلف، شكل مستقل ومنفرد قبل الشروع فيه مع إسرائيل، مع كل من السلطة الوطنية وحركة حماس.
الخطأ الذي وقع فيه بحسن نية، أولئك الفلسطينيون الذين شاركوا في ذلك الحوار هو الدخول إلى حلبة الاتصال والنقاش وتبادل الأفكار والحلول في وقت سابق لتوصل القيادات الفلسطينية إلى برنامج سياسي مشترك، لأنه الخطوة الأولى نحو البدء في التوصل إلى تفاهمات فلسطينية إسرائيلية لتحقيق السلام.
> مروان كنفاني المستشار السابق للراحل ياسر عرفات