إن الأزمة التي نمر منها تحمل مسألة إيجابية، بالنظر الى كونها عَــرَّتْ بعض القناعات والأفكار الجاهزة، فحتى حراس المعبد الليبرالي انتفضوا وشرعوا في مراجعة الذات، فالجميع تقريبا بات يُــقِــرُّ، عن اقتناع أو بنوع من النفاق، بإفلاس الليبرالية الجديدة، وينادي إلى تبني نموذج تنموي اجتماعي تلعب فيه الدولة دورا استراتيجيا، كَــمُــنَــم وحَــام ومُــقنن وضابط régulateur)).
هل هذا يعني أننا على وشك نهاية سيطرة الاقتصاد النيوكلاسيكي والرجوع بالتالي إلى مرتكزات الاقتصاد الذي تم تصوره كعلم اجتماعي؟ إنه أمر ممكن، شريطة ألا يظل المثقفون وتياراتُ الفكر المؤمنة بعالم أفضل وأكثر إنسانية مكتوفي الأيدي وألسنتهم ممسوكة، إذ علينا ألا نستهين بالآلة الجهنمية للأيديولوجيا النيوليبرالية الموجودة والتي رغم وجودها اليوم في حالة عطب، إلا أن بإمكانها أن تتحرك في أي لحظة.
للتذكير، فإن الأزمة الصحية التي يشهدها العالم هي أيضا أزمةٌ اقتصادية، أو بعبارة أوضح: هي أزمة الليبرالية الجديدة والعولمة الزاحفة.
لقد ظهرت هذه الليبرالية الجديدة، بدايةً، في الولايات المتحدة الأمريكية مع رونالد ريغان، وفي إنجلترا مع مارغريت تاتشر، وأدت إلى ظهور تيارين يُــعَــبَّــرُ عنهما على التوالي بـ “الريغانية” و”التاتشيرية”، وانتشر في ما بعد هذا التوجه تدريجيا ليشمل العديد من البلدان، بوتيرة انتشار بقعة الزيت، مستفيدا من انهيار المنظومة الاشتراكية.
إن الأساس الذي يقوم عليه هذا التيار النيو ليبرالي ليس سوى النظرية الاقتصاديــــــــة النيو كلاسيكية التي ظهرت في البداية كرد فعل على النظرية الاقتصادية الكلاسيكية وعلى الفكر الماركسي، ووجدت في ما بعد أرضية خصبة للتوسع، لتصبح نمطا فكريا مُسيطرا، بل مُهيمنا في الجامعات والأوساط الأكاديمية، ويشهد على ذلك عدد الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد من أنصار هذا التيار.
ويتسم هذا التيار بالخصائص التالية: فهو يؤمن، بشكل مُبالغ فيه، بفضائل السوق والتوازن التلقائي الذي ينتج عنه؛ وهو ثانيا يقدس الربح، ويعتبره بمثابة محرك التاريخ والتقدم؛ وهو ثالثا يتعاطى مع العمل، أي مع العنصر البشري، على أساس أنه مجرد “عامل من عوامل الإنتاج”، مع تكريسه لتشييء الكائن البشري؛ ثم رابعا يعتبر أن المصلحة العامة هي مُحصلة تجميعية لمجموع المصالح الخاصة، مع تغليب التحليل الميكرو اقتصادي على مستوى المقاولة على حساب التحليل الماكرو اقتصادي والماكرو اجتماعي، و”مادام الأفراد، أكانوا منتجين أو مستهلكين، يتخذون قراراتهم بشكل عقلاني فإن الأمور تسير على أحسن ما يرام”.
وعلى مستوى السياسات الاقتصادية المُستمدة من هذه النظرية، فقد تم اللجوء على نطاق واسع إلى الخوصصة، بما فيها خوصصة القطاعات الحساسة مجتمعيا، كالتربية والصحة، إضافة إلى تفكيك القطاع العمومي، وهشاشة العمل، وخرق حقوق الشغيلة، خاصة في ما يتعلق منها بتفكيك تشريع الشغل، وإقرار نظام المرونة.
وفي نظر أنصار الليبرالية الجديدة تُعتبر هذه الإجراءات أمرا عاديا جدا، نظرا لاعتبار العمل مجرد عامل من عوامل الإنتاج، كباقي المدخلات الأخرى كالمواد الأولية وغيرها، وبالتالي فإن تكلفة الإنتاج يتعين الحد منها إلى أقصى الحدود!
كما أن التقدم التكنولوجي، الذي يعتبر أساس الزيادة في الإنتاجية يُعالَــجُ بدوره كعامل “متبقي” لا يستفيد منه البتة صانعوه الذين هم العمال.
في نفس الوقت، تم تقليص دور الدولة إلى وظيفتها الأمنية لتحمي الرأسمال، فكل ما يمكن أن تقوم به الدولة هو أن لا تقوم بأي شيء!
لقد بلغ هذا النظام حدوده واستنفذ إمكانياته، فلم يعد في استطاعته مواجهة التناقضات والكوارث التي أنتجها، حيث كان السبب الرئيسي في التقلبات المناخية، مهددا بذلك وجود الإنسان، كما أدى إلى فوارق اجتماعية صارخة، إذ تفوق مداخيل الرأسمال بكثير مداخيل العمل.
إنه، باختصار، نظام مَرَوِّع، لا يمكن له أن يستمر، لأنه يهدد الانسان والطبيعة في نفس الوقت.
ولقد حان الوقت، بالمقابل، من أجل الرجوع إلى أساسيات الاقتصاد، وخصوصا إلى رواد اقتصاد التنمية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فهؤلاء الاقتصاديون ليسوا كلهم ماركسيين، بل منهم ليبراليون وإنسانيون يضعون الإنسان في قلب العملية الإنتاجية.
إن مسلمات اقتصاد التنمية هي عكس مسلمات الاقتصاد النيو كلاسيكي: حيث المصلحة العامة لها الأسبقية على المصلحة الخاصة، كما أن محرك الإنتاج ليس هو الربح، إنما هو إشباع الحاجيات الاجتماعية للناس. ومن جهة أخرى، فإن السوق لوحده غير قادر على تحقيق التوازن، فهذا الأمر هو من اختصاصات الدولة التي تلجأ إلى التخطيط والتدخلات الإرادية في العديد من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، من خلال قطاع عام قوي وشفاف ومُسَيَّــر بطريقة ديمقراطية، كما يحتل القطاع الخاص كل مكانته ضمن هذا النموذج، إلا أن ذلك ينبغي أن يتم في إطار الأهداف الوطنية المنوطة به وحسب الأولويات الوطنية. وبعباره أخرى: بدل الاستمرار في “تشريك/تقاسم الخسائر وخوصصة/احتكار الأرباح” ينبغي عَــكْـــسُ هذه المعادلة تماما.
تلكم هي الطريق التي ينبغي اتباعها بالنسبة لبلد مثل بلدنا الذي يتلمس طريقه نحو نموذج تنموي جديد، وهو السبيل الذي يُــمَكِّنُهُ من ربح الوقت واختزال المسافة، لبناء مجتمع متضامن ومتناغم وإنساني.
بقلم: د. عبد السلام الصديقي