السجالات التي تغمر مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، سواء عقب جريمة اغتصاب ومقتل الطفل عدنان بطنجة ثم جرائم فقيه بالمدينة نفسها، أو عقب النقاش حول طبيعة الدخول المدرسي أو بشأن الاستعداد للانتخابات المقبلة ومناقشة مراجعة القوانين الانتخابية ذات الصلة، والأفكار التي تنتشر حوالينا طيلة زمن كورونا، وحتى قبل انتشار الوباء، كلها تنبهنا إلى هذا التدني المخيف الذي بلغه الوعي السياسي والمدني بمجتمعنا.
يجب أن نسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية، وبالكثير من الصراحة، التي وحدها تستطيع أن تسمح لنا بتشخيص حقيقي، وأن تساعدنا على تلمس مداخل التغيير.
التعبير عن الآراء والمواقف والمطالب، عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو في عدد من الأوساط والمحافل واقعيا، صار يتم بكثير من السطحية والاستسهال والذاتية، ويمتطي لغة تطغى عليها الإطلاقية، وتغيب عنها المعرفة أو الواقعية.
لماذا وصلنا إلى هذا؟ وهل يكفي أن نوجه أصبع الاتهام اليوم إلى الأحزاب وحدها، أو أن نلصق بها استقالتها من فعل التأطير والحضور الميداني، ونكون بذلك قد عثرنا على كبش فداء ونريح خواطرنا وأنانياتنا وأحكامنا الجاهزة مسبقا؟
الأمور لا تجري في المجتمع، أي مجتمع، بهذه التبسيطية، وعبر مسارات خطية مستقيمة، ولكن تحليل وقائع السياسة وتحولات المجتمع يتصلان بعديد تعقيدات وعوامل متشابكة، ومن ثم يتأثران بأدوار وتدخلات أطراف عديدة.
هنا يجب حتما الوقوف عند مسارات التدني والتراجع التي شهدتها منظومتنا التعليمية الوطنية بكاملها، وخصوصا الجامعة المغربية، والمستوى التكويني والمعرفي العام لخريجيها.
ولا بد أيضا أن نستحضر حجم التضييق الذي عانت منه قوى سياسية جادة طيلة عقود، وتفريخ كيانات حزبية ريعية لا تمتلك سوى الخواء في جعبتها، والكثير من الأموال والأعيان.
ونضيف إلى ما سبق تراجع أدوار المثقفين والنقابات، وضعف الإقبال على القراءة بشكل عام وسط شعبنا وشبابنا، وضعف أدوار التنوير وتقوية الاهتمام الشعبي بالشأن العام من طرف الإعلام السمعي البصري، وضعف دعم وإسناد الصحافة الوطنية الجادة، المكتوبة والإلكترونية، وكل هذا نجم عنه تبخيس العمل السياسي المنظم، واحتقار الالتزامات النضالية والمدنية للمواطنات والمواطنين.
ومع توالي السنين، وتفاقم مظاهر الفقر والعوز الاجتماعيين، وتبدلات القيم والتمثلات، صار الأمر انشغالا حقيقيا يكاد يكون خطرا على مجتمعنا وبلادنا.
قد تكون للأحزاب مسؤولية تقصيرية ما، أو أنها لم تمتلك اليقظة الكافية لتحصين صفوفها أو لتمتين التكوين السياسي والنظري والتنظيمي لأعضائها، ولكن يجب، مع ذلك، وضع الموضوع في الدائرة الحقيقية لتحديد المسؤوليات، وتشخيص الواقع بشكل موضوعي وواضح.
الإمعان، خلال سنوات، في إضعاف الأحزاب الجادة ومختلف أذرعها النقابية والشبابية والجمعوية والإعلامية، وتفريخ كيانات ريعية مبتذلة، في المقابل، لمحاصرتها وإبعادها، هو الذي جعلنا اليوم أمام المفارقة العجيبة، وهي أن القوى التي تعرضت للاستهداف والتضييق والمحاصرة، وتلقت ضربات مختلفة، هي التي تستمر، مع ذلك، صامدة إلى اليوم، برغم كل ما تعانيه من مشاكل، وما يصيبها من انتقادات من لدن الجميع، في حين الكيانات التي خلقت على خلفية بدائل وهم أو سيناريوهات اصطدمت بالجدار، هي التي لا تخجل اليوم وتواصل”تخراج لعينين”.
التأطير السياسي المطلوب اليوم في بلادنا، وتنمية الوعي العام لشبابنا ومواطنينا، لا يمكن القيام بهما إلا من لدن أحزاب وقوى ممتلكة للمصداقية والمرجعية التاريخية والخبرة النضالية ووضوح الرأي والهدف، ولا يمكن الاعتماد في ذلك على من لا يميزون بين العمل الحزبي وبين أداء وظيفة وتلقي مقابل عن ذلك، أو من لا يرى السياسة سوى على أنها مناورات وحسابات صغيرة وضربات تحت الحزام، او من يعتبر الريع والفساد تذاكيا فرديا وجماعيا، ويخترع لذلك الحيل والسيناريوهات.
كل هذا لن يفيد بلادنا مستقبلا، ولا بد من العودة إلى التفكير في السياسة والسعي لاستعادة نبلها وجديتها، والإنصات إلى القوى الجادة ذات المصداقية.
إن العمل السياسي لا يجسده قطعا الفاسدون، ولكن في البلاد توجد قوى وطنية جادة، وهناك أيضا مناضلات ومناضلون حقيقيون، وتبخيس عمل وتضحيات كل هؤلاء، والتشطيب على كامل التاريخ النضالي لشعبنا طيلة عقود، يعني مواصلة جر شعبنا ليبقى ضحية الفاسدين ولوبيات الريع.
لا بد إذن أن ننتبه إلى تدني مستويات الفهم والنقاش السياسيين وسط مجتمعنا، ولدى شبابنا، وأن نقرأ، بشكل موضوعي، هذا الهبوط، ونحرص على إدراك أسبابه ومنطلقاته وامتداداته، وأن نعمل على وقف النزيف، ونسعى للارتقاء بمضامينه، أي بمستوى الفعل السياسي، ومستوى الحوار السياسي العمومي.
زمن كورونا، وخصوصا الاستعدادات الجارية للاستحقاقات الانتخابية القادمة، هما فرصتان ثمينتان للشروع في هذا المسار وتقديم إشارات قوية على ذلك من الآن.
المغرب، بكل رهاناته والانشغالات الواضحة وسط الشعب، في حاجة اليوم إلى السياسة، وإلى التفكير السياسي الرصين والممتلك لوضوح النظر وبعد الرأي، وهو في حاجة إلى تقوية الأحزاب الجادة ذات المصداقية والإنصات إليها، وهو في حاجة إلى رفع مستوى وجودة الحوار السياسي العمومي في البلاد، وهو في حاجة إلى تجسيد كل هذه الدينامية في عمل المؤسسات الرسمية والتمثيلية، وعلى صعيد الحياة السياسية والإعلامية والمجتمعية الوطنية، أي عبر نفس سياسي جديد وشامل في البلاد.
<محتات الرقاص